يوميات مهاجرة. سرديات جاكلين سلام

 


في البدء كان الصمت
ولم تكن الروح عارية في قبضة الريح.
كنت في حضن المكان أغني تهويدة لأمي، أغني لي وأصبحُ الأغنية وأمي. فيتبدل إيقاع اللغة والصوت.
لماذا أشغل نفسي بالسؤال: هل للرياح أمهات وبنات؟
أفتح نوافذ الذاكرة وأذهب إلى حضن أمي. أسمعها تغني تهويدات تحنو على الأزمنة، فينكسر نبض الريح وهو يلبس أقنعة مختلفة بين مساء وآخر.
كأنها الريح. وبينما أغرق في شقتي في "سكاربرو" أسمع الصوت مختلفاً بين نافذة وأخرى، أسمع حكايات الريح بلغة وتفاصيل لا أنتمي إليها، لا سبيل لاحتوائها. لا أدري إن كانت الريح ستحفظ غيباً تهويدات أمي.
لا أثق بالريح. وهذا لايعني بأنني قادرة على إيجاد الخيط المشترك مابين روح الأمهات وأسباب الريح. الشيء الوحيد الذي لا أستطيع أن أنفيه، هو هذا المجهول الذي يحيط بليل تهجع فوق كتفه الريح والصمت وأصوات متشابكة قادمة من مسافات وأعماق نائية. تتشابك خيوط البدايات بضباب اللحظة، فأغني ما اعتادت الأم أن تترنم به لأطفالها. تتقاطع التهويدة مع أشجار الذاكرة، يلتبس فيها نبض لغة مشردة ضاربة في القدم، ومعجونة بطين البيت الأول. ولكن ماذا أفعل إذا اقتلعت الريح أغصان الذاكرة وراحت مخلفة في البيت روحاً عارية؟
للآباء أصوات مغايرة. لا تهويدة على الأرجح. قلما يغني أبي. مثل قوقعة يتكور فوق تفاصيله ولا تستطيع العاصفة أن تنثر حكاياته في الحقول والبيادر كما ينثر هو حبات القمح والشعير في حضن الأرض وهو يغني لزرعه كي يكبر ويعطي أرغفة وقشاً وليرات سورية. كان أبي يتمتم وهو يقرأ وجه الغيم والمطر واتجاهات الريح وأوان الثمر. تآخى أبي مع الشمس فاكتسب منها سمرة وصلابة وحدّة.
قلما ينظر أبي في المرآة. مرآته شمس معلقة في سماء صغيرة تدور وترجع لتجده ناضجاً كثمرة قطن.
سنة بعد سنة يشيخ الآباء، تشيخ الأصوات المضمرة والمعلنة. يموت الآباء بعيداً عن عيون الأولاد والبنات، المهاجرين في العالم.
أبي يحفظ التهويدات التي ترددها نساء الحارة وأمي، ولا يغنيها لأحد.
كأن الصمت قاتل. وكم كان الله جباراً حين كان في البدء الصمت، ولا أولاد، لا أمهات، ولا بنات. كان في الصمت شيطان يخرّب سكينة الله. فأبدع الله شجرة، ثم رجلا وامرأة. وكان على الرجل أن يبني بيوتاً لها نوافذ وتحيط بها الاشجار. ثم صارت المرأة تسكن نافذة، ومن النافذة الأخرى تتعقبها نظرات ابن الجيران، وبينهما ملاعب الرغبات وصمت ايروتيكي وشجن.
يتمدد الزمن ويتمطى في الساعة العاشرة من مساء خريفي. أقايض الصمت بهسهسة أصابعي فوق الكيبورد. في المسافة الفاصلة بين الصوت والكلمة، صمت يصعد الى السماء بلا أم ولا أب ولا نافذة. تهلل له ، ترافقه حتى ينكسر
صمت ليس من ذهب، أكتبه و ألصقه على أحضان رياح الشمال وهي مرتبكة حنونة ومشردة.
فمن يهبُ الريح شرشفاً مشرقيا، مخدة وتهويدة ناعمة كأوراق الخريف!

( من كتاب اليوميات- لم يصدر بعد )
#جاكلين_سلام

تعليقات

جاكلين سلام

حضانة الاطفال والحقائق المرة عن محكمة الاسرة في كندا

شعرية الكريستال قراءة نقدية في مجموعة كريستال للشاعرة جاكلين سلام. د. محمد فكري الجزار

about " Anne of green Gables"

قسوة الهجرة الى كندا في مذكرات سوزانا مودي، جاكلين سلام

مراجعة كتاب وقراءة في "نادي الانتحار" والليالي العربية الجديدة

مشاركة جاكلين سلام في مؤتمر اعدت له الجامعة الكندية ( ماكماستر) حول اللغة والمنفى

انشغالات جاكلين سلام في الدستور الاردنية

حوار مع الناقد محمد عباس في صفحة منتدى مدينة على هدب طفل 2004

نصوص من مجموعة المحبرة أنثى