نصوص من مجموعة المحبرة أنثى

مجموعة "المحبرة أنثى" للشاعرة جاكلين سلام، صدرت عن دار النهضة العربية في بيروت نهاية عام 2009

هنا بعض نصوص المجموعة




المحبرة أنثى

الإهداء إلى:
حارسة الورد، أمي، سفرة موسى حنّا
إلى بيدر الصدق، أبي، أفريم يعقوب حنّا
إلى أخوتي وأخواتي، وعلى حلم أن تجمعنا الحديقة مرة أخرى

وإلى حبيبي الذي ستأخذه المسافات


كتبت نصوص هذه المجموعة في كندا بين عام 2000 و2007




الباب الأول بعنوان : محبرة الرغبة



المساء الذي بلون واحد لا يحتمل
جاكلين سلام

المساء الذي بلون واحد لايحتمل. تجفل عين الكاميرا مما يحدث في بؤبؤ العين فتجعله أحمر برتقالياً، هذا لا يعني أن صاحبة الصورة شريرة. عناويني حمراء على الغالب، وشفاهي بعد القبلة أشد شجناً والتباساً. لم أكتب الشفاه قبل القبلة، بعد القبلة. اللون قبل القبلة زرقة مضمرة. لم يكن الجوع يقطف وهج الشفتين، كان موتاً يقرع حجرات القلب، كان بكاء خافتا، كانت الفتنة محروقة والغياب شديد الحلكة. كان صوتك يقول: من أين سقط الدمع في هذه اللحظة. لم يكن للدمع لون وليس لون الغياب أحمر، فلنفترض أنّه أزرق والشوق أزرق والحب تدرج من حمرة إلى رماد إلى كريستال. الكريستال متحف ألوان، انكسارها، هشاشتها وقسوتها. الحب ليس كريستالاً. الوهلة نثرات كريستال امرأة تدلف إلى داخلها. تغمض عينيها تنتظر وهلة لتكتب تحولات مزاجها، فتندلق في كفها الألوان. تتشعب الحكاية التي كان من الأفضل أن تنام في صدرها قبل أن تطلقها دون علم فيما إذا كانت ستصطدم بحرف نافذتك الباردة، نافذتك الخضراء، نافذتك! لا أدري ما لون نافذتك، لا أدري إن كان لقلبك نوافذ تطل على سماء الكلمة والشفاه العاشقة. سماء الكلمة بئر مقلوبة، سماء الحروف ليست هناك حيث ينام الله بدقنه الطويلة البيضــاء وثوبه الأبيض. الأبيض يكسر سمت الكلمات. تقول صديقتي: الأبيض لون الكفن، الأبيض لون الثلج، الأبيض لون الأشباح. الأبيض فراغ هائل حين يختلط بشفتيك يشفى القمر من دورانه الأحمق. لكن القمر لا يدور يا سيدتي، الأرض هي التي تدور، كلماتك تزداد سرعة وتخرج عن مدار اللون، الجاذبية أيضا مسألة نسبية فلنخرج من الفيزياء ونبتعد عن الحسابات والدقة ودقة المشاعر وحديث الشفاه. ولكن لماذا أصبح الحديث بصيغة الجمع، وكنت قد ذهبت في اللون موجة على انفراد. للموجة ألوانها وتحولاتها وبعد نقطة الذروة تنحدر الى النقطة الميتة وعندها تنتفي العزلة ولا يعود مجدياً أي تصريح. كنت أبحث عن عزلة ألوّنها بمزاجي فسقطت في هذا اللاشيء، هذا الفاصل الخبيث ما بين الكلمة والكلمة، ما بين اللون واللون، مابين الصورة والصورة، ما بين الله وقلبي ووجهك في هذا الصمت المبهم. هل يحدث وتباغتكَ الألوان وأنت في غمار اللوحة فيولد لون جديد على أهداب الريشة كما تولد امرأة من رحم العاصفة. ليس وجهك تماماً، ليس الحب، ليست الشفاه ما عصف بالليل وجداً. كانت العاصفة في الخارج تشتدّ. كان الحبّ فصلاً من فصول العاصفة. ما لون العاصفة يا امرأة، ما لون الحبّ حين يحدث في سمت العواصف. كنت دوماً تقول: أشتهي حضوركِ حين العاصفة. هذا المساء أعيد عليك القول: كان عليك أن تصل مع العاصفة تماماً كي نغمس كل كلمة في لونها. نمنحها قبلة للهبوب ومن الأوراق نمدّ سريراً للقصيدة ونشبك اللون باللون. هل مستّك اشتباكات الجسد حين كانت العاصفة تلوذ بالنوافذ والكائنات المجهولة وراءها. العاصفة ابنة الريح، جدة النسمة، سليلة المجهول، وأنت مجهول آخر أسامره في سلة ألواني. مسامرة العاصفة أرختْ عن وجهي الأقنعة وعن كلماتي غربة ألوانها. ماذا سأفعل الآن بوجه بلا قناع.
قبل أن أعبث بمساحات اللون، كان عليّ أن أطفئ السيجارة، أطفئ الأضواء والشفاه لتغفو الكلمات تحت غلالة الليل وإلى أن يصير الأفق قوس قزح ينحني حول قلوب لا أعرف لونها ولا تعرفني. تخمد تحولات اللون. تسيح بين أصابعي الألوان غريبة كالحقيقة، كالأوطان، كوجودي في هذا البيت الذي يكاد يغسله هطول الفجر.


*


مهاجرة برفقة الحقائب والرغبات
جاكلين سلام

لستُ رومانسية بما يكفي لبناء قصيدة حبّ أبدي
لقد أصبح عندي أصدقاء من العالم، وعشاق موتى أيضاً

أحرر تشابك أصواتي
أتظاهر باللامبالاة فيما نوافذ الجسد مسكونة،
أجساداً تخشخش داخل جلدي، تحفّ عضلة القلب العارية

ألبسُ ماكياجي وحيرتي
من أجل الذهاب إلى لا أحد
من أجل الهجرة في ليل العالم
وحيدة والشمال فسيح
الدرب إليك حبيبي غامض كقمر تلك الليلة الوحيدة
فهل سيصل صدفة أحدنا، قبل أن يموت أحدنا!

مبحوحة هذه القبلات هذه الرغبات
وارفة هذه اللهفة بين الشفة والعين
هذا النزيف بين مسامات الجسد
وأنت تعضّ على شهواتك
وأنا أمضي شرقية الملامح ولا تؤمن بالحب العذري
ولا تصلح لتأليف حكاية خالدة بنهاية سعيدة

ألبس ثوبي المرصع بنجوم فضية مطفأة
الثوب الذي انتظر في الخزانة طويلاً له رائحة الموتى
السلسة الفضية يتدلى منها قلب وبوصلة لا تشير إلى جهة
استبدل مشروع الخروج إلى العالم
بالوقوف أمام المرآة
بالوقوف أمام مرآة الكتابة
أخلع الزينة، الحذاء والثوب، وما تراكم من حنين
تدبّ الرعشة في أصابعي وأكتب قصيدة حب لاجسد لها

لن أكتب عن لهفتي
أريد أن أفهم كيف ينام هذا الطائر متوازناً فوق القصبة
ولماذا تدهورت علاقتي بهذا بالطائر المنشغل في فصفصة جريدة وضعتها أسفل القفص. أصبح للجريدة استعمالات أخرى. أصبح التواصل بيني هذا العصفور في القفص ملتبسا كحال جارتي الشرقية التي تصفق الباب في وجهي، فقط لأن زوجها كان ضابطاً كبيراً، يحمل نجوماً لامعة فوق كتفيه، وجهاً مطفأ، وعقدة أبدية بين عينيه
- كان يجب أن أتجاهلهم هنا لكنهم جزء من المشهد-
هاجرت الجارة وزوجها وحقائب كثيرة قبل أن ينقلب النظام، وما تزال تصفق الباب في وجه البلاد ، فترتجف بين أصابعي نوافذ القصيدة، ترتبك في فناء قصيدتي صور الوطن والمنفى وعلاقتي بهذا الطائر الذي لم تكسر الأقفاص رغبته في الغناء

أزيح الثوب عن جسد الكلمات
أنتَ لا تعرف ما يكفي عن حبي. أنا لا أعرف خاتمة هذه الهجرات وهذه الحروب
لا أحد يعرف كيف يقضي المهاجرون عطلتهم الإسبوعية
وماذا تكتب امرأة مهاجرة برفقة الحقائب والرغبات

العالم بائس، كقائد حرب يعجز عن إحصاء خسائره فيقول: لقد انتصرنا، انتصرنا، ويعيدها ثلاث مرات.



**

ركــعةُ عشــق

ذاهبان إلى اعتناق الحياة. هو وهي.
يهيمان في طقوس السّكر
هو، يحمل نتف أحلامه، أفراحه، رؤاه عنها بعد هذا الغياب
يحمل أرغفة خبز وشطائر زعتر، نبيذ وقيثارة وشرائط ملونة لجدائلها.
هي، قادمة من مستقبل الذاكرة، تحمل جرة ماء، عشق معتّق، حزمة أوراق، بعضها أزلي، بعضها ينتظر بداية الحكاية.
وجهها لوجهه، آيتان جليلتان، معقود لسان الدهشة
هي، تبتسم كما لو أنها العذراء في ثوب ناري
هو، يرتبك كما ماء أزاح صخرة وانبثق. ينزل جرة الماء عن كتفها، يلفحه عطرها. ويشرعان في إعداد رابية صغيرة تناسب مقام العشق
اللسان أخرس، المفردات عرجاء، الدواوين التي أعداها للاعتراف تبعثرت، تبخرت.
كان الحضور الفعلي هو الديوان الاكبر الذي لن يكتبه الا العشب الذي شهد والنجوم التي تتراقص هناك.

تغمض عينيها وتستلقي ثملة في ملكوت غامض
يتوسد ذراعها، يخاف ان يكسر لوح البراءة حول قامتها. أصابعه تتوهج كروح شعلة وتدور بأناة حول صفحة وجهها، أصابعه تحرس هالة عينيها بالقبلات، أصابعه تتابع سُكرها حانية حول مدار شفتيها النبض يلتبس، النبض يلبس عرس اليقظة القصوى، النبض يرقص في شَعرها وعينيه. الملائكة تغادر على رؤوس الأصابع، تمنحهما الأثير. تضمه الى روحها، ينفرط وجده حد البكاء، يبكي في دمها: أشتقتُ اليكِ أيتها المجنونة. تتوهج بحرارة جسده، تغيب عنها كما لو أنها تلاحق أطيافا بهيجة، وديعة، لامرئية.
بأصابعها المرتبكة تتغلغل في قميص ليله، تومض ربيعا في يباس صدره، يزدهر الرقص في مملكة النجوم، يمتلكان اللحظة، الأبدية، تنفرط خرزات التوق شلالا وأنشودة. الأثير خصب، غيمة حبلى.

سأحبكِ إلى الأبد، دعيني أمنحكِ طفلاً(ة)
يتوثب جسدها العطِش لحبه، تهمس بلا كلمات مسموعة، تشدّه بقسوة حينا، بحنان حينا، تتغلغل كقطة أليفة، متوحشة.
يحلّ ضفائر شعرها، يزيح ثوبها الجمري، تتساقط حبات عرقه على صدرها، تتحرر أصابعه، يملأ كفه ماءا يرطب شفتيها، ينحني إلى حلمة نهديها، يوقظها بماء، يركع بخشوع حنون في خميلتها، يستيقظ ماؤها جامحا، وجلنارا. يهرع الكون إليهما مدثرا بتسابيح الياسمين. يتحرر لسانها: أيها المجنون حبيبي، أين كنتَ كل هذه السنون. من أقصاكَ عنك، من يدنيني مني ومنك.
يقبل شفتيها، تقبله، يغرقان في لجة، يرصع حبق جسدها خصلة خصلة، يتوغلان في سمت ليلهما.

قلتَ أنك ستهبني طفلة، ستكون أجمل منكَ وأجمل مني( تغمغم بحنان)
دعنا إذن نخط الأسماء على أوراقنا، نرسمها بألواننا قبل أن يحل الفراق. أصابعه تداعب شفتيها: أرجوكِ، لا تقولي هذا.
تمتد يده ويدها إلى حزمة الأوراق بجانب الجرة، يندلق الماء سهوا، تبتل الأوراق وكسرات الخبز، يذوب الملح بينهما، يعبر بين مفاصل الأرض.
يعجن قليلاً من التراب، يغمس فيه أصابعه وعلى المسافة ما بين نهديها وسرتها يكتب: أحبك منذ بدء الخليقة.
يأتلقان كروضة ريانة، يضحكان، يبكيان، يشهقان، يعزفان الحياة. يصنع تاجاً من عشب وزهر بريّ يضفره بشرائط ملونة، يكللها.
تضع في إصبعه خاتما من وريدها. ويحكى أن برقا سقط في الجوار وفي تلك اللحظة امتدت صفصافة هناك وامتد نهر.
قادمان لاعتناق الحياة، هو وهي.

**




الباب الثاني بعنوان: محبرة الأربعين


المحبرة أنثى والكلام ناقص


من أيقظني هذا الصباح؟!
حمامة رمادية جداً، وباكراً جداً
أيقظني شجن جناحيها على نافذة غرفة نومي
تسربت رطوبة الهواء في الخارج الى حافات سريري
الإسفلت خارجا يشي بأنها أوشكت أن تمطر
الرطوبة عالية وثمة حبر يحترق!

هل هي الحمامة ذاتها التي تشاكس على نافذتي باكرا كل صباح وعندما توقظني تغيب بلا أثر؟
الشرفة الآن ملعب لهواجس العالم. ربما ليس لكل هذا قيمة، لأنني هي/أنا، ذاتها. فقط التقويم السنوي ماتت بين أوراقه صفحة البارحة، البارحة شمعة حزينة مطفأة، هكذا قال "كافافي" وانطفأ لا أدري متى.

لا، اليوم لست ُ أنا البارحة، ولست ُ أنا غداً ولستُ أنا ذاتها آخر النهار. ويصدف أن أستيقظ وفي يديّ النهار، تفاحة. يَحدثُ أن أكتسي لهفة طازجة ويصدف أن أكون على حافة الليل جدة ذابلة. يصدق العكس.
لستُ أنا من أوجِّه أشرعة هذه التحولات. ثمة كامن يفعل فعله غيباً.
يأتي الصباح، يذهب الصباح. ماباله القطار لا يكفّ منذ سنوات عن الصفير في أذنيّ؟!
إلى أين يريدني أن أذهب؟ ما شكل المسافرين وإلى أين تهاجر بهم الطرقات؟
أُرجِح أن معظم ركاب القطار العابر قريبا من كتف البيت، بعد قليل سيجلسون قبالة الكمبيوترات في أبنية عالية، مكيفة وتشبه القبور في الفضاء ... وسيشتمون في سرهم ربّ العمل، ربّ البيت، ربّ العالم

ما الذي يجري الآن بين أصابعي؟ كنت مع الحمامة التي أيقظتني ... وعنوة عبر القطار
هل يتحسس القطار الرطوبة العالية على وجه الشجر والسكة الحديدية.
الرطوبة خانقة، أصابعي تحترق على رصيف من حبر.

الطفل يزعق ثانية؟!
جاري، الطفل الصغير، يزعق الآن أيضا، ربما لا يريد أن يذهب الى المدرسة، أتراه يخاف افتقاد الأمّ، أمْ يكره الذهاب الى العالم؟
أقصد الصبي الأسمر الصومالي الذي يسكن في الردهة المجاورة، حصل وخرجتُ ذات صباح وباكرا جدا، صرخت في وجه أمه: أرجوكم، لا أستطيع الإستيقاظ كل يوم على بكاء طفل حاد.
لا أعرف هل أصبحت الطفولة حادة، أم البكاء حادا، أم العالم؟
الأم أعتذرت، الطفل بحلق فيّ وسكت، نبهتني نظرته الى أنني على الباب ، والثوب يشفُّ يشفّ. توقف َ بعيدا عن أمه وصمت. غاب الطفل من وجهه، هو يبحلق والأم تعتذر، النعاس يقطر من شعري وصوتي.
أنتبهت ُأن الطفل فقيهٌ أيضاً. وبلغتي الأم شتمته: "يلعن أبوك ع الصبح ع شو عم تتطلع"؟
الذي أريد أن أقوله، أنني لا أحبذ اليقظة على طفل يبكي بحدة.

يا لدمي/ لم يعجبني اصطفاق أجنحة الحمامة باكرا أمام نافذة الصباح وأمقت صفير القطار، أخاله يزجرني لارتكاب معصية النوم، ماذا دهاه، هذا الطفل الأسمر كالقهوة!
ماذا أيضا؟ سأصمت الآن، سأعيد الكلمات إلى أدراج العتمة، أقفل مسالك الضوء اليها وأسترق السماع اليها بعيدا عنكم. الكلمات تنجب في العتمة أيضا
"دور يا كلام على كيفك دور / خلي بلدنا تعوم في النور / ارمي الكلمة في بطن الظلمة / تحبل سلمى / وتولد نور ..." هل حقا ستولد نور؟

من أيقظني هذا الصباح؟!
قد يكون ذاك الذي يحمل الجرائد الصباحية إلى بابي، باكراً جدا ً
لا أعرف أهو رجل أم امرأة. الشخص الذي يضع الجريدة أمام أقدام الباب، لايحني ظهره،. الكلام الكبير في الجريدة يوقظ الباب، يوقظني ويترك العالم صفحات على بابي.
أتحاشى أن أقرأ الجريدة صباحا. لاشيء إلا صور من عالم يتهدم. هنا حادثة اغتصاب، هناك حادث قطار أو انتحار، رصاصة طائشة أو صاروخ موجه بتخطيط حاذق. يا إلهي ماذا هنا؟ ماذا هناك؟ ما لون العالم يا هذا الصباح؟
أنصرفُ الى الشرفة. يالرائحة القهوة وأنا نصف مستيقظة...وحدها اليقظة على القهوة رحيمة. القهوة قبل أن يتسخ الصمت.
في حضرة القهوة الأولى، أعود إلي، أتحاشى نوافذ العالم
في حضرة القهوة الأولى تنبثق فيروز- صوت الشعب من دمشق – من ياسمين الذكريات، الكرمة والغاردينيا التي ترعاها أنامل أمي.
أمي، أيتها الأجمل من الغاردينيا، أجمل من إلاهة منسية، أجمل من قلب الصباحات الطازجة
أمي، لقد استيقظتِ باكرا جدا. صباحك ياسمين وفيروز وخير
صباحكِ قمح وماء وبسملة وركعتان في محراب الحياة.
أمي، هل رششت ِأزهارك الكثيرة بالماء؟ هل قطفتِ بعضا من الجوري، أمي أمي أمي، أما زالت تلك الجورية البرتقالية في كتف باب الدار تستقبل ضيوفك وتودعهم، من يزوركم هذه الايام؟
هل عاد أبي من مشواره الصباحي الباكر صوب أمه الأرض.
هل عاد أبي بأرغفة الخبز الطازج، ترافقه بدوية سمراء، أيقظتها الخليقة باكرا لتقدم للعالم الحليب واللبن العالم جائع منذ الأزل وصغيرة هي، تتعثر بفستانها الطويل جدا. تحمل لنا الحليب وكفها ماتزال حليبا.
آه، ربما كانت تشتمنا وربما تبكي في داخلها، إذ ترانا نياما في فسحة الدار
هي التي استيقظت من قحف الصباح لتعبر المدينة الجائعة بجرار الحليب وباقات النرجس البري.
يا لقلب هذا الصباح. يا للقلوب التي يندلق صمتها كل صباح على كف العالم.
أتراهم زوجوها لابن عمها كي تنجب أطفالا رعاة يحملون عنها العبء، أو يكثرون عليها الأعباء، يبيعون حليبها وينامون جياعا؟
الحليب ضروري جدا- يقول الأطباء-
اسكبوا الحليب على وجه العالم، على قامته، علّه يقف مرة أخيرة.
عظامنا مترهلة، أنقاضنا غائرة فينا، ليس لنقص الكلس، بل لان الصباح لم يعد ابن الشمس.
أمي، أذكركِ الآن وأنتِ تُعدين مائدة الصباح. أذكر أنني كنت أخلط الشاي بالحليب وأُكثر من السكّر. ملعقة واحدة، اثنتان، ثلاثة...
كنت تنهريني: السكّر سمّ أبيض، يكفي.
حكمة تقول: النفط ذهب أسود، والقمح ذهب أصفر- مالون الحقيقة إذن؟
أمي قهوتي مُرة الآن .. مُرة مرة والحليب مسحوب منه الدسم
الطفلة، كانت تضع فائضا من السكر، كي يبرد كأس الشاي
كبُرت، وتشرب الحزن بلا سكّر وأحيانا البحر. قدحها سميك كوجه هذا العالم لاينقل الحرارة، لا الحب ولا اللوعة بأمانٍ.
العالم مصاب بالنقصان في كل شيء، اللهم إلا تطور الاسلحة النووية ومشاريع باذخة لحروب صغيرة كبيرة أخرى.
لا تبتئسي أمي لن ينتهي العالم. فقط بعض الصواريخ ستزوركم وأطنان القذائف ستسقط بالقرب منكم. سيصفق العالم البليد هنا وفي أمكنة أخرى، معتقداً بأنها حرب ضد الشيطان الآخر، وسيقضي والدي الوقت كله يتنقل من إذاعة إلى إذاعة، إلى قناة فضائية وأخرى ... يتيم أنتَ يا أبي، ولم تدرك أن العالم يتيم أيضا، لا أم ترعاه.
أبي يلاحق الأخبار والمستجدات أذكر، نهرني مرات كثيرة وأنا صغيرة اذ تأففتُ في وجهه: ما هذا يا بابا، نريد فيروز صباحا، إلى متى أخبار أخبار أخبار ... وصفقتُ الباب على نفسي.
شتمني "يلعن أبوكم" العالم يشتعل وأنت تريدين فيروز!
سامحني يا أبي، العالم يواظب اشتعاله اليوم، يكمل دورة خرائبه وأريد فيروز، رحمة بي.
لاتقلق يا أبي، سيقضون على الشيطان قريباً
أضحكُ من كلمة الشيطان، أخاله بين أصابعي
الشيطان، أليس كما أرداو له. الشيطان وسّوس للأفعى ...الأفعى وسّوست لحواء، حواء وسوست لآدم وسقط.
وهل كان آدم دمية واستجاب للمعصية، آدم- أقصد ...لا أعرف ماذا أقصد ..بل أقصد: لا دمية إلا عقولنا الصغيرة ومن الصعب تحديد مسار الأفعى والساقط ومن أين وكيف بدأت الحكاية؟

أمي، أتسألين عن صحتي؟
سأكذب عليكِ وأقول كل شيء على مايرام. أمي تعرفين إنني كذبتُ عليكِ مرات كثيرة وكنت دوما أقول لكِ انني بخير وانزوي في وحدتي أرقص وأبكي على الورق، الورق الذي لا تستطيعين قراءته. واسمحي لي الآن أن اشتم جدي، والدكِ لأنه زوجكَ وأنت صغيرة.
أتسألين أمي عن عالمنا هنا؟
العالم يضيق، ثيابي تختنق، يسيح الوقت، روحي تحبو اليكِ ...آه، ما أكثر الجحور.
سأحكي لكِ اشياء عابرة... لاتقطبي الحاجب ماما، ولاتنهريني لطول لساني:
سأكذب ثانية، الكلام العاري أمرّ من القهوة، من الصبر.
هل الصبر مرّ؟ أراك تعيدين جملتكِ المأثورة "يا صبر آيوب"
لا، سأخرس ثانية لأنني لا أستطيع أن أحيكَ عباءة للحكاية العارية.
أردت ُ أن أقول وباختصار: ذهب رجل ليزور العالم المريض. كانت سيدة هناكَ صدفة. كادت نظراته أن تمزق البنطال الذي تلبسه. انتهى.
العالم مريض، الوباء مستفحل وقديم
رجل يغتصب امرأة بعينيه، العالم يغتصب العالم بلسانه، بالصواريخ العابرة للقارات
السيادة للقوة، القوة انتصاب.
ماذا فعل بنطال سيدة برجل عقله بين فخذيه؟ قالت سيدة أخرى بسخرية مرّة وفي يدها فنجان قهوة عربية.
الحدث ناقص، اعذريني ... قهوة اخرى مُرّة ودخان يتكاثف، تحلق شارة حمراء في رأسي مكتوب عليها "ممنوع من الكلام / ممنوع من السكات/ ممنوع من الابتسام / ممنوع من الغُنى / وكل يوم في حبك/ تزيد الممنوعات / وكل يوم يوم بحبك / أكثر من اللي فات ..."
خسوف آخر ...الحبر يبتلع الغصة، الحوت يبتلع القمر وسكان القرية يقرعون الصنوج والتنك، يفزعون الحوت ليدع القمر بسلام ... ماذا سنفعل يا أولاد، لو أصرّ الحوت على ابتلاع القمر؟
ماذا لو مات القمر!

من أيقظني؟ الحبرُ أم أنتَ أيها الغريب!
لا، لست أضحك، إنني أبكي ... لا بل أبتسم وأتذكر ... قلتُ سأشتم جدي لسبب غير عابر ...ولأنكِ لن تقرأيني الآن يا أمي.
هل قلتُ بأنني لا أؤمن بكلمة "عابر" لاشيء عابر، لا شيء يفنى، الكل قابل للتحول لحدٍ يثير العجب.
أتخيل دفتر الهواتف في بيتنا العتيق وأرى رموزكِ الهيروغليفية وأنت تضعين مقصا أمام رقم هاتف جارتنا الخياطة. ترسمين سكينا أمام هاتف القصاب ووردة أمام رقم آخر وحذاء على آخر... تخترعين لغتكِ ورموزكِ . ترسمين طائرات ...طائرات ...طائرات تتشابكُ على أرقام هواتف أبنائك المبعثرين في القارات.
ما أجملكِ أمي، وما أشقاه قلب العالم
هل للعالم قلب؟ لو كان له قلب لكانت القيامة يانعة. عميقة شكوكي.

"سلام عليك وأنت تعدين نار الصباح / سلام عليكِ / سلام عليك / أما آن لي آن اقدم بعض الهدايا اليك ...أما آن لي أن أعود اليكِ ...أمي أضعتُ يدي ...."
أمي وجدت ُ يدي. وما يزال بين أصابعي حليبك ِ الطازج. لا، لا حليب بين يدي
بين يديّ حبر وحبر، شمس تندلع وقمر لا يكتمل
بين عينيّ حبر وعلى شفتيّ حبر ...ماما ماما، أين مريلتي المدرسية الآن؟
أريد أن أرى الحبر بين طياتها. الحبر الذي كان يزعجكِ وكنت ِ تعنفينني دوما عندما تأخذين مريلتي للغسيل وتقولين: يامجنونة هل تكتبين على ثيابك؟ ألا يوجد لديكِ دفاتر وأوراق تكفي؟
الحبر يتعشّق بالثياب، آثاره تبقى.
أعتذر الآن لطيفكِ وهو ينظف العالم في عيني.
أمي ثيابي نظيفة، متسخة أوراقي والحبر كثيف، الحبر معصيتي.الحبر قيامتي. الحبر أمي.الحبر دمعتي. الحبر حبي. المحبرة أنثى والكلام ناقص

حمامة، قطار، طفل، أمي، حليب، جرائد، العالم، قهوة
القهوة واليقظة والدخان يتكاثف بين الأصابع، الرطوبة عالية وأوشكتْ أن تمطر.

من أيقظني هذا الصباح؟
قهوة أخرى والعالم لا ينام. قهوة أخرى والعالم لا يستيقظ. قهوة أخرى ثقيلة، مُرة والعالم ليس العالم، ليس الحبر، ليس القهوة ، ليس أجنحة الحمامة، ليس بكاء الطفل، ليس أخبار الجريدة.
العالم ليس العالم، كفى.

من أيقظني، الحبر أم الصمت أم الكلمات؟
اختلطت أصابعي بي وبكم، اختلط الوقت بالموت، أقصد اختلط القول بالقتل
ولكن، من أين تبتدأ الحكاية؟
هل كان في البدء حبر وكانت الكلمة أم كانت العتمة وفي بطنها الكلمة أم كانت الروح وأصبحت الكلمة الله؟

صباح الخير أيتها الحياة
صباح الخير أيتها

صباح من يوقظ العالم ثانية

أستيقظ للمرة الألف
أريد أن أنام. أغفو على رتم الحبر وأريد أن أعترف: أنا التي شنقتُ المهرج وما زال يتأرجح على النافذة.
أفتحوا نوافذكم. الرطوبة عالية، دخان القبر كثيف، ينذهل حبيبي عندما أقول: من يستطيع أن يكتب السماء، من يستطيع أن يكتب الرقص، من يستطيع أن يكتب الروح؟

- من يُكمل الحكايا؟
- شهرزاد؟
- شهرزاد علتنا، وترقص في المحبرة. لسانها صخرة "سيزيف"
- من يحكي رقصتها؟
- الرقص قيامتها، لا تحتاج للحبر
رقصتها لكم، منكم، إليكم
لا، رقصتها لها
رقصتها حبر يحترق
-وهل يحترق الحبر؟
اصمتي الآن

صباح الخير أيتها الحياة
صباحكم
صباحُ من يوقظني جداً.


***


مقعدٌ للشَّعر، مساحةٌ للحياة


(0)
إنصّرفَ كلُ الذين كانوا، كل الذين لم يكن مُقدّر لهم البقاء
شاسعةُ مملكتي وغريبةٌ أنا
متهتكٌ جسد الوقتِ بانتظارك
أيها الشَّعر تقدمْ
لكَ كلي. لكَ هذا الجسدُ بأبجديته العصية، هذه الروح، ضلالها، طلاسمها،
أرقها الذي ينبثقُ من غياهب صمتي تساؤلات وأنقاض
عجينتها اللاشيء، وكل شيء
لم يبقَ لي إلا أنتَ ...لم يبقَ لي

هنا مقعدان شاغران، دعنا نجلسْ بحق السماء، بحق الملح أصدقني القول: هل حقاً أنتَ هو "الملح الذي يَحْول ُما بين العالم والتفسخ"؟!

انصرفَ عني كلُ الذين كانوا
لكَ وحدكَ أعُلِنُ العشق، فترفق
( يُطيلُ الشِعر التحديق في الكرسي، بأكثر من التحديق في وجهي)
نظّرتُه تقول ولا تفصِحْ. كيانه الفصول كلها، خفقة حرة في اللامكان، يُمسّدُ أصابعي المرتبكة: أحبكِ، أحبهم. أمقتُ الجلوس
سيدي مهلاً، أدخِلني مملكتكَ، امنحني بعض أسرارك.

- أنا لا أقُيمُ، العالم غربتي. يُجيبُ الشِعر
ستجديني حيث لا تنتظرين...افهميني. افتحي خزائن القلب، تحرري من ثقل الجسد، ليتأتى لكِ الغوص عميقاً عالياً . اتبعيني إن شئتِ وتذكّري، أن الذين آمنوا بي لم يحظوا بالخلاص وأنا مثلُكم "محكوم بالأمل" وفيكم قد يثمر خلاصي.

- قالها الشعر. هل حقا قالها؟!
كان صدى الصمت في الفراغ، يشي بحضوره الغائب إلا أنه لم يغِب. رأيتُه رأيته دون ميعاد:

(1)
في المترو العابر إلى قاع المدينة الحجرية، جالسة بكامل شبابها، نظراتها تثقب أرضية المترو كأنها تغور صوب قحف لا مرئي، صوتُها يُسائل صديقها الرجل السبعيني الجالس بجوارها: أبحَثُ عن معلومات حول مصير جثة الفرد هنا في كندا...أعتقد أن لكل فرد منّا حق القرار بل ضرورة الإختيار منذ الآن لطريقة التصرف مع جسده الميت.
(إما أن تتبرعَ بجثتكَ لصالح البحوث العلمية، أو توصي بحرقها على الطريقة الهندوسية، أو تشتري مساحة القبر الذي ستسند قامتكَ إليه وتنام) هذا ما أعرف هل لديكَ معلومات أخرى؟
ينظر اليها بدهشة ويضحك: لمْ يشغلني البحث في هذا الموضوع حقاً، ثم ...طز...جثتي؟ لايهمني ما ستؤول اليه بعد موتي.
تجيب : ولكن تعرِف، أنا لا أحدٌ لي...والموت سيأتي سيأتي، لاأريد أن تصبح جثتي عالة على أحد.
يجيب : لا تقلقي سأسأل عن الموضوع وأخبركِ
لا، لستُ قلقة، هي فقط مسألة حسابات مادية.
كانت نظرات عينيها الغارقتين بلا نهاية في اللاشيء، تفضحان ضجيج داخلها ولم تكن تسمع حتى أنين السكة الحديدية كلما توقف المترو في إحدى المحطات كابحاً قامته الجامحة الطويلة، متوقفاً ليعبر العابرون.
رأيتُهُُ، رأيته -رأيت ُ الشِعر تلك الساعة جالساً في المقعد المقابل لهما، ينصت ويرسم على صفحة بين يديه، صورتها، إمرأة عجوز في شارع بلا نهاية وقبور متناثرة على الطرفين. يرسم الرجل لسبعيني الذي بجوارها، شاباً بنظارات شمسية وفي يده باقة ورد يضعها على قبر لا شاهدة له، والمترو يسير...


(2)
صالة البيت بحجم حنين أخرس. في الركن مصباح أرضي، طاسته مزينة بزهور يابسة بنفسجية ألتقتطتْها خلال مشاويرها في المقبرة المجاورة، وبين الزهور فراشة وجَدَتها ميّتة على راحة الثلج المتراكم خارجاً صباح الأحد.

الصمت ثقيلٌ. تحدق صوب الركن. تنتفض من مكانها على الأريكة وتحدث نفسها: يالقسوتي، ألم يكفي الفراشة احتراقها في الصقيع حتى الموت، ماالذي دعاني لتثبيتها على المصباح؟
تمد يدها إلى الفراشة المشبّعة بالموت، تضعها جانباً على المنضدة، تُشعِل سيكارة أخرى، تغمض عينيها وتحاول اللحاق بطيفه الذي يقترب ويبتعد.

صنبور الماء في المطبخ ينزف قطرات تك تك تك تك تك تك ...لم يكن لديها خيار لتقف، وتوقف هذا النزف.
رأيته، رأيته- كان الشِعر مرتبكُ القسمات، مستلقياً معها على الأريكة يحدثها عن تعذيب المساجين في زنزاناتهم بوخز قطرات الماء من صنبور يشبه هذا.

(3)
علاقتي الغامضة بالغيوم اتخذتْ منحىً آخر، منذ عهد ليس بعيداً ولا أعتقد أنه يهمكم سر ُهذا التحول.
من شرفتي المطلة على حجر وغيم في هذا المغيب الشرس،
رأيته، رأيته!-رأيتُ الشِعر بجلاله، حزيناً يقتعد غيمة نازحة ما بيني وبين حبيبي المسافر أبداً.
كانت الشمس تهجر المدينة مكفهرة، والمتبقي من أشعتها يصفع زجاج النوافذ المغلقة في البناية المقابلة لشرفتي فينعكس قرمزها على وجه الغيوم القاتمة المبعثرة على صدر سماء غاب الأزرق عن امتدادها .
رأيتهُ، رأيته!
رأيتُ الشِعر، وجهه رسالة لم تُفضَ كلياً، محمّلة بألوان تحاكي الموت.
انقبضتْ شرفات قلبي المشرّعة صوب بيته، ولذتُ بالصمت وصارت روحي لطمة هواجس غيبية مُعلّقة.
أقلقني أن الشمس قد تصطدم بتلكَ العمارة الشاهقة. ماذا لو تشظتْ الشمس، ألن نتفسخ من الرطوبة والعفن!
سكنني مئة هاجس وصورة . صباح اليوم التالي، كان الشِعر يمرّ أمام نافذتي حاملاً رسالة من حبيبي تقول: أنا بخير، كان بيني وبين الموت مناورة، اجتزتها بمعجزة كي أبقى أحبكِ!

(4)
رأيته رأيته
رأيتُ الشِعر جالساً على بساط الريح، يُهرّب الأوطان إلى عشاقها، ساخرا من حرس الغابات
على حافة العراء الحقيقي، انتفض مذبوحا في دمه
كان يجري مقارنة بين بساط أيوب، وهذا الوطن

(5)
رأيته، رأيتُ الشِعر يقف على شرايين القلب حين مرّ موكب آخرٌ للشهداء.
كان يرتل: نصلي جمعاً، نحج جمعاً، نموت فرادى وجماعات
قيامتنا رهن أبواق نحاسية، صنوج وطبول

(6)
رأيته، رأيت الشعر يماطل ويعتمر طاقية الاخفاء، يسخر مني، اذ كنتُُ أحاول القصيدة
إنصرفتُ عني، أمسح الغبار عن عيون المكان، أرتّب أجزائي المبعثرة، قصاصات
أزرع قلقي في أرجاء الغرفة، جيئة وذهاباً ريثما يُذعن قلبه لندائي

(7)
رأيته، رأيته
رأيتُ الشِعر يباركهما تلكَ الليلة. كانا يهجران جدران المدينة الحجرية، يهربان إلى بحيرة .
تمددا على الأرض صامتين، مجنونين، بريئين كانا. وعلى وجه الماء كانت ترف روحيهما، تعلو صوب قبة السماء، ترتمي حول حفيف الأشجار التي تحاكيها الريحٌ .
لم يقولا شيئاً حين أخذتهما الطريق إلى المدينة. وكانت النجوم، العشب، الشِعر والبحيرة شاهدةٌ


(8)
رأيته، رأيته
رأيت الشِعر يغزل من روحه أوتاراً لقيثارة طفلة تكبر في رحم العاصفة
قميصاً لطفل لم يخُلق ليرعى العراء
أراجيح لأطفال وجوههم تسيل صوب الحليب، الشوكولاته والقمح
وحين أعياه التعب، أخذ قيلولة في صومعته ولا أدري إن كان حقاً قد استراح


(9)
رأيته، رأيته
رأيتُ الشعر يدور في العتمة في شوارع العالم وحيداً يتمتم: متى كرنفال الحياة!
رأيته يكتب على جدران المدينة: كم ارتكبتم قبحاً وجمالاً باسمي، وكم تكذبون. شاسعةٌ مملكتي، وغريبٌ غريبٌ أنا.

***


القصيدة الواحدة تتـسع لغـابة

في الطريق إلى القصيدة يختلط الحاضر، بالماضي والمستقبل
1-
قبل أن تصل إلى عتبة المحبرة لتعمد قصيدة أخرى وتعطها اسماً وتاريخاً وجغرافية، أراها تستسلم لنداء جهول. تستقل القطار ولا تدري إلى أين، تقرأ القصائد المعلقة على وجوه المسافرين، تسترق النظر إلى سحناتهم وما وراء النظارات. تدخل في ذاكرتها، تنبشها، تكتب على الهواء، تبتسم أحياناً وتغص أحياناً. في تلك اللحظات الخاطفة تجمع مؤنتها الشعرية، حين يدها في جيبها وروحها في كل مكان تكتب يصمت ومضة ولا تكتب شيئاً

2-
قبل أن تكتب الومضة الأولى للقصيدة، تراها في حديقة مجاورة تمشي بلا دليل ولا غاية. تترك الجمال الباذخ في تلك الشعاب وتنزوي لتسامر تلك الشجرة العتيقة الضخمة المقطوعة وجذعها المتشظي. تجلس بين الأخشاب- بقايا الشجرة، تلتقط للمشهد صوراً فوتوغرافية، وتطلب من الرجل العابر وصديقته أن يلتقطا لها الصورة. تسألها المرأة "لماذا تأخذين صورة هنا تحديداً؟"
تجيب: لدي مشروع عن الأشجار الكندية
يتبادلون الابتسامات والأماني، ينصرفون
تنصت إلى ألحان الطيور على الشجرة المقطوعة، والطيور على ربيع الشجرة المجاورة. تحاول أن تقع على الفاصل الشعري ما بين الحالتين والأغنيتين. ما بين الغربة والجذور والاجتثاث والغناء الذي يتواصل.
تكتب الومضة بذهول صامت. تعود وفي حقيبتها أجزاء من لحاء تلك الشجرة ومحمولات أخرى يراها الآخرون فيضحكون في سرهم.
القصيدة الواحدة تتسع لغابة.

3-
قبل أن تصل إلى تلك اللحظة-الومضة، تجمع في دفترها أقوال المجانين. كلمات السكارى، صور العشاق في المقهى، في الشارع العام وعلى شاطئ البحر.
تشاهد ما يحدث في نشرات الأخبار والصحيفة. كثيراً ما تأخذ الأحداث عن الكتاب الذي تقرأه.
الحدوث الذهني الأول ومضة تحدث في الرأس بصمت. تحدث في الواقع وتحدث في المخيلة- البئر التي قلما تتذكر ماسبق ووضعت فيه من صور واعترافات.
تخربش، تتأمل غدها في غيابهم، وحضورهم. لكل حالة برقها وذاكرتها، سقوطها، انتصارها وكومة أسرار مقطوعة.

4-
الشعر يرميها في أقصى العتمات وخلف موائد اللذة والألم والنور، ثم يمضي.
في تلك اللحظة، يختلط كل ما سبق ويتحول الشريط الذهني إلى أبجدية قد تضحك، قد ترتعش من البرد، من العشق من الخوف. ترتعش في عزلة الشعر. تتحول بجسدها وحسها وروحها، لتصبح الحديقة والقطار والمسافرين والأعشاب البرية، الضارة والنافعة وتصبح الحب والمكان والأزمنة.
الفاعل مجهول اسمه الشعر ينهر قيلولتها، يوقظها من سريرها ويحلم بها. فتكتب شذرة وتعجز عن لملمة ما تبقى. يأخذها من كتابها المدرسي، يخطفها، يتسلط ويملي ويتلو كيمياء الحياة بمقادير أخرى، يسمونها في الشعر الحديث "ومضة". الجسد يشهد هذه التحولات. الومضة لحظة انعتاق الجسد ليصير كلمات يعمدها الحبر.

5-
يتبلور زخم الوعي المخزون ليقف على عتبة اللاوعي ويكتب السطر الأول والتالي. ما بعد الومضة، الفاعل المجهول يصبح أليفاً حنوناً طيباً، يقبل المساومة والتغيير والتنقيح. تتبدل مواقع السلطة حتى التلاشى والإنصهار الأليف. يعتدل مزاج الكلمة وتخفت عاصفتها وجموحها وتأخذ الزمان والمكان المقرر في النص الشعري.
إنها مرحلة العزق والتشذيب. وقد تكتفي بعزلتها لفترة قبل أن تذهب إلى القارئ في دائرة أوسع ويعاد تشكيلها كومضة جديدة في دائرة المجهول.
الومضة، امتداد وانسياب لا ينفصل عن اللحظة التي يقرأني فيها وجه مجهول ويعيد تشكيل الحالة بينه وبيني والكلمات، فيختار أن يسامرني في ظلال الكلمات أو يغادر على عجلة.


***

شرفة الفراغ


(0)
امرأة في موجة معلّقة، ويطيب لي أن يكون بيتي مركز العالم
الموسيقى ترقص في قدميّ ورأسي منذ عبر السرّ كياني
الكلمات المرفقة باللحن، لغة لا أفهمها، تصلني بعالم يتداعى، كي أعبئ الموسيقى بما أشاء.
الوقت والصورة. المرأة تكتب صفر القلب، صفر الدائرة، صفر الكون.


(0)
امرأة تروح وتجيء بين جدرانها، تعالج أوقاتها المبعثرة، تروّض صمتها، وحين تعجز، تذهب في الرقص، تذهب في الأمكنة مترعة بالأسرار والطلاسم حين ينهمر وجدها كنور في العتمة.
يتناثر عقد الكلمات حراً منسابا بلا اشتراطات أو مقدمات موضوعية
تختال بين أمواج بحيرتها المجنونة، تحاصرها الجدران، يحررها اللحن، تسلم نبضها للاشيء، للاأحد، للامركز (هذا كذب تبدأ به النص إذ أراها تصوب سهام روحها وكلماتها إلى بحر عينيك الموغلتين في زرقة السموات )


(0)
تلوب هاربة من الاختناق، تبحلق في الفراغ، كالشبح تسير الى غرفة نومها تتأمل المرآة وجهها:
الاسم: لا يهم أحداً
العمر: تقارب الأربعين من الورد
الطول: يانعة بما يكفي لاحتضان حبيبي كما يشتهي
مكان الإقامة: لاجغرافية ولا تاريخ منذ تهدمت "نينوى" مدينة جدنا الأكبر، ومنذ هرب باقي الأجداد من مذبحة على حدود ملتبسة- سورية تركية عراقية
ولا أدري شيئا عن تاريخ القمقم الصقيعي، أعتقدتُ أنه لم يجمدني أو يحرقني، فأعاوده بشغب، بشغف، بورد وموت يتفصد من جرح في جبين وقت لا يندمل.
- هل يندمل الوقت؟
- لا أحد يندمل، القلب محبرة، وتسيل
- هل المحبرة واقع؟
- واقع ما تروضه الأوهام والأخيلة
( هذا كذب آخر، لقد فقدتُ معالم التاريخ والجغرافيا والبوصلة، أزخرف العراء العذري لمرة واحدة وأخيرة، وأكذب إذ أقول: في هذه الوهلة أتجرد عن كل الحالات السابقة )


(0)
امرأة لم تستعمل صوتها، أو ربما محاولات الكلام كانت يائسة بلا لون
ما زالت تجرّب صوتها لتقول: أحبّكَ!
الصوت حزين ويعلوه الصدأ، لربما يحتاج إلى شمس صريحة


(0)
تقف مع ذاكرتها، تصب نبيذا، تبتسم حين تمسك الكأس تتذكر صديقة أبدت إعجابها بالكأس الشفاف، لاحقا أبدت إعجابها بالسهرات الموغلة في تفاصيل أزمنة وأمكنة مهاجرة على الدوام.
( سهرات، وشقاء وشقاق، طفولة شباب وسيدات- هذا أيضاً خروج عن النصّ)
- الصديقة تبتسم وتقول: هذا الكأس يمنحني الاطمئنان، يشبه حضنا، ولا يشبه الكؤوس ذات القاعدة الممشوقة بشفافية حدّها الجرح.
- أبتسم، كنتُ أجهل لماذا أُحبُّه دوناً عن العشرات الأخرى، ألأنه كأس يجبرني على احتضانه برهافة؟!
الصور المبحرة في الصمت ترفع نخب امرأة شاء لها الوقت أن توغل في الغياب، تركتْ لي بعض الورد، وفيض تساؤلات.
مؤخراً انكسر الكأس ولم أرمه في الزبالة
مؤخراً رحلت الصديقة وما زالت على أطراف ذاكرتي تتمايل.

(0)
تريد شيئا ما، تجهل أشياء كثيرة. من، أنا أم هي؟!
تفتح ملفاً أبيض لتبدأ نصّها، تجد الملف الالكتروني محاطا بحاشية رمادية، لم يعجبها الرماد المرفق بالبياض، أغلقت الصفحة، تريد بياضا بلا رماد، إلكترونيا على الأقل
تخاف الإبحار إليكم بكل الحذافير. فقط تريد أن توصل رسالتها التالية:
كانت فرحتي بكِ حقيقية لأسباب جوهرية:
1- أنكِ كنت مستعدة أن تلملمي معي حجارة مثقوبة من "بريملي بلفز بارك" ومستعدة أن تجعلي من الجاكيت سريراً لحمل الحجارة إلى البيت، لوضعها زينة في المدخل، وفوقها تضعين العود الشرقي.
2- لأنكِ الوحيدة التي تبتهج بتناول القهوة على شاطئ بحيرة أونتاريو حين يغطي الثلج العالم.
3- لأنكِ شاركتني الجلوس على الشاطئ في جلسة خاصة كان محورها الأساسي أن نشتم المدير العام للشركة والذي أقالني عن العمل، وأقالك ايضاً.
4- ولأنك كطفلة أرهقتها الفصول، غفوتِ بسلام على أريكتي حين كنا نستمع إلى ملحمة جلجامش
(هذا بوح يصل متأخرا كالعادة. وهذه ارتحالات آخرى، كائنات العالم الممتد من أقصى الشرق إلى الشمال الامريكي والكندي)

(0)
تغادر الأوراق والشرفة، تسحب ملقط شعر من علبة في الحمّام، ترتب فوضى حاجبيها، تسحب الآلة الكهربائية الصغيرة من الدرج، تتخلص من بعض الشعيرات المتناثرة على ساقيها، تنقطع الموسيقى. تسير إلى الستريو، تعيد الأغنية ذاتها
تترك دفاترها مبعثرة وترقص
ترقص الكلمات، الأفكار تتصارع، تتلاطم
شريط الأفكار يتأرجح ويشبك الأمكنة والوجوه العابرة والإفتراضية والأرواح المغادرة
تصرّ على أنها ستكتب الفراغ الذي بين فكرتين، ستكتب الخلاء: هذا الذي يعادل اللا أحد، واللا شيء. تلك المساحة اللامرئية، المترعة بالغيبوبة المجردة من الأبيض والأسود.
ستكتب النص من تلك المسافة الغائرة مابين الفكرة والفكرة حيث تقيم الأبدية.
( كذب ومحض رغبات، تعيش التباساً، لم تستطع أن تكتب/لم تستطع القول: لم يكن الفراغ أعمى كما أعتقدتُ في وهلة سالفة، تماما حين التقاء عقارب الساعة بين عامين)
يهمني الفراغ المتتلئ بنا، أريد الفكاك من هذه العثرات أيتها الأبجدية.
تمتعض سيدة أخرى تريد حدودا فاصلة بين الأنا والـ نحنُ
ويهمني التأكيد على أنه لامكان لإقامة الأنا في هذه الومضات
*
*
هذه الفراغات متروكة للذي تساقط بين فكرة وفكرة وفي خاطري العودة إلى قلب النص والصورة.
(النص والنصف والآخر وأنتم. أوهام لا بد أن أنغمس فيها)


(1 )
أتشرّب تفاصيل الهامش المبعثر، أترك الواجهات للذين يحبّونها
النصف الآخر يقال فيما بعد، ما بعد ارتحالات أكثر جدوى:
سـأكتبُ امرأة، تلملم وجلَ الأربعين، تنظر خصلات الناضج الأبيض من شعرها كما لو أنها فضة كونية.
ترى ثدييها كما لو أنهما نبعان يمضيان إلى شفاه حبيبها البكر، حبيبها الأخير
ترى الدروب على جبينها بصمات تؤكد أنها كانت موجودة هناك وهنا
ترى بصمات الدهر على قوامها وتبتسم لصباها الممشوق في المخيلة
تتكور على ألوانها كجذع عريشة تهب العنب نبيذاً معتّقاً – خلاصة الروح
تصير سراباً نظراتها، تفقد وجهها والمرآة والحقيقة
تستيقظ بلا قبلات سحرية. تعلّق على شجرة الجسد، ذاكرة ومستقبلاً . قصاصات سوداء وبيضاء محاكة بألفة ونزق
تستيقظ فيها المرأة مراراً وتكتب من حيث يبدأ الصفر انطلاقته بزهو. بفائض النشوة تقول سأكتب الحبّ:
الرغبات نبيذ قصائد، أقواس قزح تترنح في قوس الشهوة
بها، سأكللكَ وإن أخذتنا المسافات المعتمة، فلا بأس حبيبي. فقط، ضع وردة على القبر وأفرح لمن يهبّ لنار العشق جسداً، لمن يترع النور في حقيبة من كلمات.


***

تعلن إيمانها بالأشجار


ارتحال 1

أين وصلت أميرة المجانين؟!
غابت الأميرة
عادت
تختلط في أثوابها الثلوج والأشجار
يختلط الوجه بكلماتها،
بكلمات امرأة / أيقونة تقول: "كي أحبّ العالم على حاله هذا، أحاول جهدي أن أجعله أكثر قرباً مما أحبّ" وتقول "أفضل وأجمل الأشياء في العالم، ليس تلك التي نراها أو نلمسها، إنها الأشياء التي نشعرها فقط في القلب" (1)
امرأة عمياء خرساء، تلمس بأحاسيسها جوهر الحياة
باللمس أعطت وأخذت من الحياة
أول فصول المعرفة بين يديها: مـــاء

الماء لا يرقد في الفراغ
الماء يرشح مودِعاً روحه في الكف
يتدفق من وجه الكلمات، المطر
بعض الكلمات لا وجه لها
الأصابع محاور يتسرب منها القلب
حين تنغلق الأصابع على بعضها
تختنق
تتشابه مع العصا في سيرة اليباب

على غفلة، تعود
كفاها قوقعة
تقص أسفار الموجة في الأرض


ارتحال 2

حين يتغير التوقيت بين الفصول، أين تذهب الساعة التي مقدارها ستون دقيقة؟!
أقنع جسدي وبوصلته، رأسي وساعاته المزاجية، أن الساعة السادسة من صباح الإثنين تقابل الساعة الخامسة من صباح الأحد. الأحد الذي ينام في التقويم لا علاقة له بهذه التحولات الزمنية

أكتب: الخامسة ظهر اليوم=الرابعة ظهر البارحة
الشمس مشرقة ولا ثلوج اليوم. رياح ليست عليلة تغازل أكياس النايلون الملقاة في الشرفة
هل راقبت خشخشة الأكياس والريح ذات نهار؟
هل تختلف خشخشخة الأكياس مع الريح من بلد الى آخر؟
هل تصنع أكياس النايلون الكندية، ضجيجاً يختلف عنه في الجزائر مثلا؟
هذه الضجة تزعجني حين أكون صامتة
أصاب أحيانا بالتيه
أحيانا أبتسم، وبعض الأحيان يسقط مطر على الكيبورد، لا أعرف مصدره.

لا يزعجني الصمت حين تكون الشمس مشرقة
توجعني تكات الساعات الجدارية
كل الساعات التي في حوزتي أقفلتُ عليها الأدراج، كي أخنق ضجيجها- تك تك تك...
ساعة الكمبيوتر لا ضجيج لها، تبرمج نفسها بنفسها، من توقيت صيفي إلى شتوي

كم أشتاق إلى ساعة يدي التي سقطت حين كنت أراقب طيران النوارس في "تومسون بارك"(2)
النوارس لا تحمل ساعات وبوصلة
كان الوقت مغيباً حين رأيتها تجتمع أسراباً، تقدم الشكر بلغة لا أفقهها
جلست بلا أغنية ولا أجنحة، أراقب المشهد، وألتقط صوراً فوتوغرافية
قرصتني حشرة لكنني لم أمتعض. كنت ُ مشغولة بأشياء يصعب أن أقولها اليوم وتابعت الالتصاق بالأرض، بالحشيش الأخضر الرطب.
- كنت صغيرة، حين تعلمتُ لغة العصافير، هذه لغة شائعة في مدينتي، البارحة سألتُ صديقي المسنجري: هل كان هناك لغة "عصفورية" أم أنني متوهمة؟
قال: نعم أيتها المجنونة وضحك عالياً هكذا ( ههههههه)

- الكائنات الافتراضية الماسنجرية لها لغة أيضاً
سقطت ساعة يدي، لا أدري متى
كان قلبها زهري اللون، وهذا لا يعني أن أيامي في رفقتها كانت وردية
لو لم أفقد تلك الساعة لما بقيت في ذاكرتي، لكان مصيرها يتشابه مع مجموعة الساعات "الخردة" التي في أدراج المكتب.

لنقل أنني لم أثقل على الجدار بساعة، أما الساعة الكهربائية فوضعتها في قيلولة حتى مزاج آخر
لدي فقط ساعة في معصمي أهديتها لنفسي بدون مناسبة
ساعتي تعرف طريقها ولا تصاب بالملل من تكرار دوراتها
أما ساعة الكمبيوتر فكانت في الغيب والجهاز بكل خلاياه مصاباً بفايروس جديد.

ساعة مفقودة، وساعة تضرب عن العمل ليلة رأس السنة.
أصمتُ في مكاني
ماذا يمكن لامرأة أن تفعل في مدارات الزمن والكلمات سوى أن تنظر طويلاً إلى معصمها الذي يربط كفها بأجزاء من جسدها، وإلى أصابعها التي اعتادت مسامرة الكيبورد والسيجارة.
تنظر جهة القلب- تنظر بلا جهة وتبتسم.
تلصق ورقة على بابها:
عدتُ إلى بيتي الحقيقي/الافتراضي
عدت ولم أجدكم
أعود كي لا أعثر على أحد
أعود كي أجدني
كي أفقد ساعات أخرى.


ارتحال 3

لا بد من صلاة لهذه المساءات العاقة
أيها الإله المجهول:
رُدّ لي بعض قلبي الذي كان
وقلباً أكثر جنوناً وانتماء
-أيها الإله: قلبي لا يقوى على الإنسحاب كلياً
قلبي لايقطن منطقة حيادية
جرّبَ الصمت
كــذبَ
تعــذب
عشــق
ارتجــف
انــتظر
خــاف
انــتشى في سكره ورقص

ما باله دمي في هذا المساء من نيسان
يقف على تلك التخوم حيث ذبح بعض أجدادي فوق جبل "طور عابدين"(3)
لا/لم يذبحوا كلهم
وإلا كيف يمكن أن أكون هنا في تورنتو كندا وأكتب أخطاء التاريخ
هفوات القلب،
أكاذيبه
يقينه
عنفه
دمه
وأسفاره
بعضكم يتحدث عن شفافيته وعلاقته الوطيدة بالملح الكريستالي
وينجرح صوتي قبل أن تكتمل الرحلة التالية
قلب لم يتعود على الكذب بعد
قلبي يكذب كطفل لا يعترف لأمه بأنه كسر جرة أسرارها
و يكذب كأمرأة تؤمن بالشعر
وقريباً تعلن إيمانها بالأشجار
ويكذب كقلب امرأة تأسرها الشجرة البكاءة
فتقول: طوبى للأشجار

قلبي في بيوت الشعر أصبح غابة
لم أعد أستطيع الدخول إليه بيسر
وعـرٌ قلبي
يا إلهي تلمّسه
هذا القلب عضلة،أعصاب، دم وحــــب

يجب أن يكون القلب من حب- لم يرد هذا في نشرة الأخبار.
يجب أن تكون عضلات القلب والأعصاب والدورة الدموية في خدمة الحب- ولم يرد هذا في دراسة علمية.
فهل لأحدكم أن يدلّــني على أفضل الطرق في الكذب على القلب
أفضل الطرق في تزوير الأدب والتاريخ
أقصر الطرق إلى الأمجاد الخلبية
أسلم الطرق للتخلص من الحب
من الحنين
من الشعر
من قلة الشعر
ولا تنسى يا إلهي أن تدلني على الطرق المؤدية إلى الحياة
إلى ما تبقى منها
عفوك إلهي، ما سبق ليس للنشر.


هوامش:
(1): من كلمات الكاتبة الامركية هيلن كيللر( 1880- 1998 ). كانت عمياء وخرساء وتنقلت بين القارات الخمس. عملت من أجل السلام والعدالة ومساعدة الاخرين. هذه المقتطفات من كتاب عن حياتها بعنوان "أن تحب هذه الحياة"
(2) : تومسن بارك، منتزه مجاور في تورنتو.
( 3) : طور عابدين: منطقة جبلية تقع على الحدود السورية التركية، كانت في عداد الأراضي السورية، حصلت فيها مذبحة السريان والأرمن عام 1918، والذين نجوا من الموت، هربوا الى المناطق السورية المتاخمة: الحسكة/ القامشلي، المالكية والضواحي. المالكية: مكان ولادة الشاعرة في سوريا.

تعليقات

‏قال غير معرف…
تحياتي
حسن من المغرب

جاكلين سلام

حضانة الاطفال والحقائق المرة عن محكمة الاسرة في كندا

شعرية الكريستال قراءة نقدية في مجموعة كريستال للشاعرة جاكلين سلام. د. محمد فكري الجزار

about " Anne of green Gables"

قسوة الهجرة الى كندا في مذكرات سوزانا مودي، جاكلين سلام

مراجعة كتاب وقراءة في "نادي الانتحار" والليالي العربية الجديدة

مشاركة جاكلين سلام في مؤتمر اعدت له الجامعة الكندية ( ماكماستر) حول اللغة والمنفى

انشغالات جاكلين سلام في الدستور الاردنية

حوار مع الناقد محمد عباس في صفحة منتدى مدينة على هدب طفل 2004