حوار مع جاكلين سلام- جريدة الجريدة الكويتية
اجرى الحوار: محمد الحجيري - بيروت
الكتابة مشروع أساسي في حياتي وعليها تقوم معادلات شخصية متشابكة والشعر قطب في هذا المشروع. تعمّق اختياري لهذا المشروع بعد الهجرة. الكتابة تعمّق معنى وجودي وتفتح أمامي نوافذ تطل على داخلي ودواخل الآخرين حين يغرق المجتمع في الفردانية وينكمش على ذاته ولذاته، ضعفه وأحلامه. بالمقابل ليس لدي خطط شعرية وبرامج للكتابة. القصيدة تدق باب الروح وتناغي الأصابع بعد أن تكون قد اختمرت في رحم المحبرة، وعندها أجعل لها من الورقة سريراً لأنها لم تعد غريبة و دخيلة. ما لم أقله أكثر من كل ما كتبت حتى الآن.
ماذا يعني بالنسبة لك ان تكون المحبرة أنثى؟ وهل ما زلت تستعملين الحبر في كتابة الشعر؟
أن يصدر ديوان (المحبرة أنثى)، فهذا يعني بالدرجة الأولى أن النصوص التي اشتغلت عليها مدة سبعة أعوام، ثم انتظرتها عامين وهي في عهدة دار النشر، قد أصبحت أخيراً خارج سلطتي وفي متناول القارئ. لن أعود بعد اليوم إلى أحد النصوص وأزيح كلمة أو فقرة أو جملة من الديوان. هذا يتيح لي أن أتحرك بحرية أكبر الآن للعمل على طباعة كتب أخرى تنتظر أن تتحرر من عهدتي. أما الى ماذا يحيل العنوان من دلالات بالنسبة لي أو للمتلقي الذي يهمني فهذا ما تسعى هذه المجموعة أن تقوله في ما يقارب 150 صفحة.
تسكب المحبرة قطراتها في كون شاسع زاخر بالحبّ وضياع الحبّ، بالأعاصير الروحية الذاتية والبيئية، ومحمّل بتناصات مستلة من الموروث الميثولوجي والشعبي الشرقي والغربي. الأنثى هنا سيدة ترى أبعد من جسدها المحدود وتعاين أصغر التفاصيل في قعر المكان والكون. ( المحبرة أنثى ) نصوص متشابكة بالمكان والذاكرة ولا تتكئ على جغرافيا الجسد بالمقام الأول. وفي النهاية المحبرة ليست إلا رمزاً لاحتواء كلي يتعدى حدود الشيء ليصل إلى جوهره. أما بخصوص استعمال الحبر في الكتابة، لم استخدم أقلام الحبر منذ كنت تلميذة صغيرة وكانت مريلتي المدرسية تمتص ما تساقط سهواً من أقلامي. مسوداتي كلها على الكمبيوتر وحين يحصل أي عطل في هذا الجهاز أرتجف رعباً. بالمقابل لا أحتفظ بأي أرشيف ورقي عن كتاباتي المنشورة في الصحافة.
ماذا تعني لك الأنثى في الشعر، هل هي خطاب أم ايديولوجيا أم ذات، هل تشعرين حقا انك تواجهين العالم الذكوري، وألا تشعرين ان بعض الشاعرات تحولن بسلوكياتهن الى ذكور...؟
كون الفرد ولد ذكرا أو أنثى، فهذا ليس امتيازاً لنوع بيولوجي على آخر. التاريخ والأديان والأساطير في معظمها منحت الرجل امتيازاً وتفوقاً دفعت المجتمعات ثمنه تخلفاً وتفرقة. ثم جاءت من بعد حركات التحرر المدني والنسوي لتصحيح المسيرة ووضع خطوط للتجاوز والتنافر وأعدت مأدبة حقوقية تضمن مساواة الجنسين. بعضهم ذهب في تطرفه يميناً أو يساراً. ككاتبات في هذه المرحلة من التاريخ ندين لكل من سبقنا في هذا المضمار. وكما قالت ( فرجيينا وولف ( مرة، فأننا كنساء ندين بالكثير لأول امرأة كتبت رواية انكليزية وكان اسمها(أفرا بهن) . ولو تعمقت أكثر في ميراث الكتابة سأقول أنا مدينة لجدتي أنخيدوانا السومرية النائمة في أساطير الشرق. أدرج هذه العموميات كي أعود إلى كيفية نظري للأنثى في الشعر أو الكتابة عموماً. أجد أنني في أحد النصوص قلت أن الرجل يبحث عن الكلمات، والمرأة تبحث عن الكلمات، والكلمات تبحث عنا لتجد كم فينا من الذكورة ومن الأنوثة. بهذا المعنى، حين أكتب ، لا أتلمس بوعي ودراية حقيقتي البيولوجية لكنني أكتب ما هو خلاصة فرد أو كيان أو مجتمع محمّل بخطاب ديني ايديولوجي اقتصادي واجتماعي. والذات الفردية هي مجمل هذه العوامل محاطة بتجربتها الشخصية وخصوصية الفرد التي تتجلى ثمرتها في النص الإبداعي. نعم، أنا كامرأة في هذه الحقبة من الزمن ما زلت في مواجهة العالم الذكوري المنبثق من الخطاب والايديولوجيا والتقاليد الاجتماعية ذات المحمول الديني والعنصري وما شابه من كتابات الذكور على مر التاريخ في الوقت الذي كان معيباً ظهور اسم المرأة على كتاب. أواجه ذلك في كتاباتي الصحافية والنقدية بمباشرة ووضوح لا تحتمله القصيدة. وأنفر من خطاب المرأة العنجهي المتعالي على الرجل وعلى المرأة. النزعة الذكورية ليست مقتصرة على الرجال دون النساء. بعض النساء ممن تتاح لهن فرصة للوصول إلى سلطة ثقافية أو مجتمعية يمارسن خطاب السلطة ذكورة بكل نواقصها وابتذالها و إنْ إدّعين عكس ذلك. والشاعرة المرأة في النهاية ليست بمعزل عن الخطاب الذكوري ، وما ذكورة خطابها المتجبر والمتشاوف والزاعق إلا انعكاس لخوفها الداخلي وعدم ثقتها باستحقاقاتها. نحتاج إلى حقبة أخرى من الزمن كي نكف عن سماع أوصاف من قبيل: احترسوا - أنا اللبوة، أنا النمرة، أنا تسونامي، أنا كائن خرافي برؤوس عديدة. ورغم ذلك سنستمع إلى خطابها كما استمعنا للخطاب الذكوري التاريخي: أنا الأسد، أنا الصقر، أنا السوبر مان...
هل يمكن الحديث عن مشروع شعري في حياتك أم أن هذه الكلمة لا تجدينها مناسبة؟
الكتابة مشروع أساسي في حياتي وعليها تقوم معادلات شخصية متشابكة والشعر قطب في هذا المشروع. تعمّق اختياري لهذا المشروع بعد الهجرة. الكتابة تعمّق معنى وجودي وتفتح أمامي نوافذ تطل على داخلي ودواخل الآخرين حين يغرق المجتمع في الفردانية وينكمش على ذاته ولذاته، ضعفه وأحلامه. بالمقابل ليس لدي خطط شعرية وبرامج للكتابة. القصيدة تدق باب الروح وتناغي الأصابع بعد أن تكون قد اختمرت في رحم المحبرة، وعندها أجعل لها من الورقة سريراً لأنها لم تعد غريبة و دخيلة. ما لم أقله أكثر من كل ما كتبت حتى الآن.
هل لك أن تتحدثي عن مفرداتك الشعرية، هل لك مفردات محددة أم أن اللغة بالنسبة لك عالم مفتوح؟
حبذا لو يفعل النقاد ذلك ويشيرون إلى مفرداتنا الشعرية. حين أكتب في النسخة الأولى لا أقف أمام الكلمات، بل أستجيب لما يتقطّر من أعماقي. في مرحلة لاحقة أحتاج أن أحذف كلمة وأستعيض عنها بكلمة أكثر استجابة . مع الوقت وهذا الكم من الكتابة وجدتُ أنني كررت كلمة المحبرة في كل مجموعاتي . في مجموعة ( كريستال ) قلت : "المجموعة مهداة إلى مخترع المحبرة وأعتقد أنه كان يحبني" وفي مجموعة أخرى قسمت فصول الكتاب إلى فصول منها فصل"محبرة مشتبه بها" . وتظهر مفردات لها حمولتها وعناوين كـ : ( مشيئة ناقصة ) ، ( رهينة الحبر ) ، ( المحبرة أنثى والكلام ناقص ) ، ( محبرة النقصان ) .. وبالطبع لم اذهب بوعي لاختيار ذلك. لا شك أن لغتي نابعة من طبيعتي الشخصية التي تستمد قوتها من أنها لا تمجّد العنف وتختار الكتابة عن الأرنب والسنجاب وأيوب وحشرة خضراء رأيتها في حديقة كندية ولا أعرف اسمها.
أي لغة للشعر في زمن العولمة والتكنولوجيا والاتصالات؟
بتصوري أن عالم الاتصالات والتكنولوجيا المعاصر سيترك أثره على لغات العالم من ناحية الاختزال واستخدام أقل كمية من الكلمات في أقصى سرعة. اللغة ستشهد دخول مفردات جديدة تقتضيها طبيعة العصر وأدواته. الآن أصبح ( غوغل ) - اسم محرك البحث - يستخدم "كفعل" أيضا في الانكليزية. وكذلك كلمة ( تويت - من تويتر ) ثم أن الأقوى تكنولوجياً سيفرض لغته المتفوقة. والأقوى اقتصادياً سيفرض أبجديات"عولمته" بالطريقة التي يشاء. العربية لن تقاوم هذا المدّ التكنولوجي ولن تستطيع حظر استخدام المفردات المستوردة إلا بارتكاب تزمت مبالغ فيه، كأن تفرض دولة على شعبها استخدام كلمة "خبز ممدود" بدل تسمية ( بيتزا ).
ماذا يعني التناص في الأدب، خصوصا انك اتهمت إحدى الشاعرات بالسرقة؟
السرقة تناص وقح يستمد وجوده من جهل أو مغافلة الآخرين لحقيقة وجود النص الأصلي وكاتبه. والتناص تشابك وتداخل نصي بين نص جديد ونص سابق عليه. قد يكون هذا التعالق مستمدا من أسطورة، من فكرة فلسفية، من نص شعري معاصر أو موغل في القدم. لقد كتب باختين وجوليا كريستيفا، و محمد مفتاح، ومحمد بنيس و ... غيرهم عن هذا الموضوع ، وليس حصراً . وأجد أنني شخصياً وفي هذه المجموعة أستخدم تناصات واقتباسات لشعراء عرب وأجانب، وأستمد رموزاً من الأساطير والموروث الشعبي والديني وأدغمها في نصي، أحيانا أضعها بين قوسين كي تنتفي السرقة أو اختلاط قولي بقول الآخر. وأذكر أن محمود درويش أخذ رموزاً وأسماء من الأساطير وأسقطها على أرض قصيدته وجداريته فاكتسبت أبعاداً عميقة. كتب درويش عن جلجامش وانكيدو وعشتار، لكنه لم يكتب ملحمة جلجامش كما جاءت بفصولها وشخوصها وخاتمتها. أدونيس وكمال أبو ديب ( عذابات المتنبي ) تقمصا شخصية المتنبي وقناعه في كتبهما. أنا في هذه المجموعة خصصت محبرة لشخصية"أيوب" ولبست أنا ( أيوباً ) ، أعدته إلى القرن العشرين، و تركته يذهب إلى خدمة العلم ويشارك في المظاهرات الاعتراضية. " أيوبي" لم يكن قنوعاً بما قـُسم له. أما بخصوص الكاتبة الكندية فأن عرضي لمجموعتها الشعرية"أغنية ليليت" جاء في سياق مشروعي الشخصي. سعيت خلال سنوات إلى تقديم أسماء كندية غير معروفة عربياً ، وهذه الشاعرة تحديدا تعرفت على اسمها لأنها صارت جزءاً من ذاكرة الشباب الكندي. قدمت عرضاً لمجموعة شعرية يتضح للقارئ من خلاله أن هناك إشكالية تخص كتاب الشاعرة اللبنانية التي استعارت هيكلية وبنية كتاب آخر يتناول نفس الأسطورة. ولم تفرد مقدمة تعريفية بتفاصيل الأسطورة الجديدة كلياً على القارئ والناقد العربي الذي يقول ( لأول مرة يتم تناول هذه الاسطورة شعرياً ) في حين أنها مستهلكة شعريا ومسرحياُ في لغات أخرى. وكذلك قدّمت عرضاً شاملاً لمجموعة شعرية للكندية مارغريت أتوود تقوم من خلالها بتخريب أسطوة الأوديسة وتخرج الشخصيات من ثوبها الأصلي لتسبغ عليها رؤيتها الإبداعية...عموماً كتاباتي الكثيرة في هذا المجال ستجمع في كتاب مطبوع لأنها تشكل إضافة جديدة للثقافة العربية وأقوم بهذا دون ضجيج وليس هذا بالعمل المسيء الموجه إلى شخص ما . إضافة الى ذلك أقول : لقد كتب أدونيس مشروعه الشعري الضخم "الكتاب" وأختار له هذا الهيكل وهذا الأسلوب وهذا المحتوى، فلا يحق لأي شاعر- ياباني، ألماني، عربي- آخر أن يواصل كتابة "الكتاب" دون أن يشير إلى ما أنجزه أدونيس.
الترجمة والمنفى ماذا أضافا الى لغتك الشعرية؟
روحي هي التي اختبرت المنفى فجاءت النصوص بهذا الشكل وهذه المفردات. أما شعرية المفردة فهي من شأن القارئ - الناقد. كتاباتي حملت هذه المواضيع لأنها نابعة من صلب التجربة والمعرفة والمعطيات اليومية التي تخصني. المكان الجديد يطرح المفردات ، والشاعرة تقتفي الأثر ، وتحاول أن تقتبس من كل هذا الاغتراب شعراً ومعرفة. الترجمة وضعتني في قلب القصيدة التي أقرأها، وجعلتني في موضع المقارنة ما بين الموضوع والأسلوب العربي والانكليزي. أحرص على انشغالي بالترجمة وتقديم عروض كتب انكليزية للصحافة العربية، لعلها تشكل نقطة ضوء إضافية تجاور اشتغالات المترجمين الكبار الذي قدموا للعربية أعمالاً عالمية خالدة، وأتاحت لي منذ الصغر امكانية التعرف على ما يجري بعيداً ألف ميل عن نافذة بيتنا القديم.
جاكلين سلام في كندا، وجاكلين سلام في سوريا، ما الفرق؟
جاكلين سلام ، اليوم ، هي الوحيدة الغريبة داخل أحلامها وخارجها كما تقول في إحدى القصائد. كان عندها طفل وحيد اسمه ( سلام ) ، صار عندها 4 كتب مطبوعة .. وصار ( سلام ) صديقها ورفيق غربتها الوحيد. صار لغربتها صوت وإيقاع وقصائد تحتمي بقلوب القراء هرباً من البرد.
هل تعيدين قراءة كتبك الصادرة سابقاً؟
لا أحبّ قراءة قصائدي لنفسي و لا أجدني تواقة للقراءة في الأمسيات الشعرية. في السبعين سأعيد القراءة و ستسقط من عيني دمعة كبيرة كلها حبّ وحزن.
--------------------------------------------------------------------------------
جاكلين سلام: هو أسم الشهرة الأدبي لـ جاكلين حنا، مواليد سوريا، مدينة المالكية- 1964
- شاعرة سورية مقيمة في كندا منذ عام 1997.
- تكتب الشعر والقصة ومقالات اجتماعية وكتابات نقدية في الأدب.
- عضوة الاتحاد العالمي للمؤلفين باللغة العربية – فرع كندا
- عضوة اتحاد الإعلاميين العرب – كندا
- عضوة الهيئة الاستشارية لمجلة "جهات"– تطبع في مصر وتوزع في العالم العربي.
- عضو مؤسس بمؤسسة جذور الثقافية في أمريكا وكندا
- اشتغلت في مجال الصحافة المهجرية العربية في تورنتو منذ عام 1998.
- لها نصوص مشاركة في انطولوجيا " الشعر السوري في التسعينات".
- اشرفت وساهمت في مناسبات أدبية وثقافية في تورنتو: قراءات شعرية وقصصية
- لها نشاطات اجتماعية تخص قضايا المرأة داخل الجالية، وداخل هئيات المجتمع الكندي.
- تُرجمت بعض قصائدها الى السويدية والانكليزية والفرنسية.
- لها حضور متنوع في بعض المنتديات الثقافية العربية في شبكة الإنترنت.
- نشرتْ في دوريات ومجلات ثقافية نقدية في البلاد العربية وكندا واوربا.
- لها نصوص في كتاب "جدل الآن/ إلى الألفية الثالثة في الانتقاد الفكري". طبعة أولى 2004. دار الآن. بيروت.
- عملت مديرة تحرير جريدة الأفق في تورنتو، ونشرة ضد الحصار ومجلة النساء في لندن - توقفت عن الصدور.
- درست الهندسة الكهربائية في جامعة حلب حتى السنة الرابعة، ولم تكمل.
تعليقات