كريستال جاكلين سلام، نقد الدكتور محمد فكري الجزار
قراءة في ديوان جاكلين سلام : "كريستال" القصائد الأربعة المعنونة بالعنوان نفسه تحديدا
محمد فكري الجزار
( مصر)
قصيدة النثر، كما لو كانت مقدمة..
أعتقد أنه لم يعد ثمة حاجة إلى الجدل حول المصطلح فقد استقر، ومن ثم فالأكثر أهمية النظر فيه.. في هذه الجدلية التي ينطوي عليها وهو يجمع بين جنسيين أدبيين، على مستوى الثقافة العربية المؤسسية، بين الشعر ويمثله مصطلح القصيدة من جهة وبين النثر من جهة أخرى، وأعتقد أن من هذا الجدل اكتسبت قصيدة النثر موقعها المتميز ، فلم يستلبها العمود الجمالي للمؤسسة، ولا حرمت نفسها من الفضاء اللامتناهي لاحتمالات الجمالي الذي تؤسسه حرية النثر..
في فضاء تلك الحرية تتنوع تقنيات الإبداع الشعري إلى حد مربك لمنظري الأدب ونقاده، فدائما ما كانت حركة التاريخ الأدبي تنزع إلى تنميط المتنوع وتعمل على تثبيت المتغير. وكان طبيعيا أن ينفض البعض يديه من الظاهرة، وأن يقارب البعض الآخر نصها المقاربة القديمة نفسها. إزاء هذا اضطر شعراء قصيدة النثر للقول النقدي تنظيرا وتطبيقا متجاوزين حقيقة أن الفعل الإبداعي ينطلق من شروط ذاتية وموضوعية مغايرة إلى الحد الذي يسمح بتميزه من الفعل المعرفي عليه.
.. بداية لقصيدة النثر رؤية واضحة لحميمية الشعري تؤكد على مركزية الذات بتشخصها.بوجودها. .. بتجربتها في هذا الوجود . وهذه المركزية تعني فيما تعني موقفا من اللغة وموقفا من الجميل وموقفا من تقنيات أداء هذا الجميل. وبغض النظر عن تحديد تلك المواقف الثلاثة ( فلهذا مقام آخر) يمكننا الزعم بأن الشعر العربي لم يعرف تطابقا بين الذات الشاعرة ونصها كما حدث في قصيدة النثر، وربما كان هذا التطابق مسئولا إلى حد بعيد عن تمرد القصيدة في تجلياتها المتنوعة على التنميط والتثبيت. إن جماليات قصيدة النثر هي عينها جوهر مأساة سكناها الهامش، حتى اليوم ، من متن الشعرية العربية. وأنا أحتفي بالهامش الذي كان- دائما - وطن الثورات الكبرى شرط تطويرها، عن وعي، باتجاه المتن.
تجربة ديوان "كريستال" تجربة فريدة للتوتر بين "الذات" و"العالم" اتصالا به وانفصالا عنه . إن الاتصال بالعالم يمثل حتمية وجود فيه، ومن ثم يصبح الانفصال موقفا للذات تجاه هذه الحتمية .. وذلك الجدل بين الاتصال والانفصال لا يؤدي- في الغالب - إلى الكشف ، إنما يلجئ إلى الستر والإخفاء، ومن ثم يكون اللجوء إلى الرمز بما يمتلك من مناطق عتمة حلا لأيديولوجيا الصمت التي ينطلق منها الخطاب. وفلسفة الترميز تعتمد على ما يمكن اعتباره تشبيها ناقصا حيث الرمز المشبه به بينما المشبه أكثر اتساعا من أن يمكن تحديده ، إنه ليس شيئا بقدر ما هو حالة يحاول الرمز/ المشبه به أن يكشفها فلا يزيدها الكشف إلا غموضا. إن التورط بالترميز هو تجلي انفصال الذات عن العالم، وفي الوقت نفسه لمحاولتها للاتصال به، الاتصال به على شرط المسافة .. هذه التي توفر للنص عددا من إمكانات تشكله:
- إمكان الرؤية.. هنا يسود إما الوصف أو السرد أو كلاهما مطبوعا بذاتية الرائيـ/ـة.
- إمكان الاختيار من مفردات تلك الحتمية ، فتصبح الكلمة بلا مرادف لها يمكن تستبدل به ، فلا يكون للذات إلا تقنية الإزاحة في التصرف بالدال، إما التصرف به منفردا، وهنا لابد من قرينة، أو التصرف به تركيبا.
- إمكان المداخلة السيكولوجية على المشهد في كليته، وهنا يكون الاختزال سيد التعبير في محاولة للإحاطة بأبعاد لا مجال للإحاطة بها.
يمكننا- إذن - أن نصف الديوان وصفا أوليا مناسبا لأولية المقدمة على محاور ثلاثة: اللغة والموضوع والتقنية، وأعتقد أن درس "الشعري" لا يخرج عنها مهما تزيدنا فيها:
1- اللغة: أقرب للصمت منها للخطاب، كأن الذات تعمل على إخفاء مرجعية صوتها إليها، وتؤكد على عفوية تقنيات الإخفاء عبر العبث بوضعيات المخاطب حين يجب حضوره في النص.
2- الموضوع: مفتت إلى أبعد حد حتى لا يبقى من النص إلا النص في ذاته مانعا تأويله بخارجه أو بمستوى يعمل على تجاوزه.
3- التقنية: المرايا، فوحدها المرآة معادل لجدل الاتصال-الانفصال بين ذاتها وما ينعكس عليها ، على أن نضع تحتها كتقنية تاريخها الجمالي بدءا من "بحيرة نرسيس" ووصولا إلى أبعادها المعرفية في "الوعي عند جاك لاكان".
هل أحد نظر إلى الكريستال ؟ .. هل أحد فارق أنانيته، فلم يبحث عن جمال الأشعة تنعكس ألوانا وزوايا، وتغلغل في هذا الشيء الذي يكاد لصفائه يكون جوهرا، بالمفهوم الفلسفي؟ .. هل أحد لامس بعينه مأساة شهوة هذه البلورة إلى الضوء وعدم قدرتها الاحتفاظ به؟ .. هل أحد رق لاكتفائها بذاتها مختبئة خلف برودتها وقسوة أضلاعها؟ ..
الكريستال أيقونة العزلة والجمال .. الكريستال رمز الانفصال- الاتصال .. الكريستال جدل الإخفاء - التجلي .. والكريستال- ليس أخيرا - تقنية الوجود بلا خسائر .. إنها قطعة استثنائية من الزجاج قادرة بين يدي الشاعر/ ة أن تتحمل من الدلالات ما لا قبل لمفردات اللغة به إلا مفردة تحيل إليها محض إحالة بلا أدنى زيادة. الكريستال- إذن - أيقونة تتمتع بقابلية غريبة على أن تشع دلاليا باختيارها لغة كما تشع بالألوان بإضاءتها .
شعرية العنوان: العنوان- أيا كان ما يعنونه - أول ما يتلقى من العمل، وربما كان، في الغالب، آخر ما يكتب من العمل. وهو ، في آخرية كتابته وأولية قراءته، معلق بوظيفة إحالته إلى ما يعنونه، هذه الإحالة التي يقوم بها بفضل أمرين، الأول: مكان العنوان منفردا بالغلاف. والآخر: دلاليته. والأمران يتضافران معا ليصبح العنوان "مرسلة " قائمة بذاتها، بالرغم من وظيفتها المعلقة بعملها. وأكثر أوصاف هذه المرسلة أهمية (في زعمنا) أنها مرسلة ناقصة النحوية، إن لم تكن لا نحوية ungrammatical بامتياز، ولانحويتها هذه تؤسس لفاعلية القراءة في استنطاقها، وغالبا ما تكون قراءة إسقاطية امتحانها الوحيد المتيسر هو الوظيفة الإحالية التي للعنوان: هل هذه القراءة تعمل كمحفز لإنجازها أم لا؟
والعنوان/المرسلة: "كريستال"، فضلا عن كونه عنوان الديوان هو- كذلك - عنوان عدد من القصائد، الأمر الذي يؤكد على مركزية العنوان بالنسبة لتجربة الديوان كله ، ومن ثم يصبح - ضرورة، أي: لا خيرة للناقد إزاءها- مدخلا قرائيا له.
- كلمة وحيدة ،
- فلا تركيب يضبط حراكها الدلالي،
- ولا إمكان لتقدير علاقة نحوية لها بمحذوف،
- وعلى الرغم من هذا وذاك فإنها مرسلة مكتملة.
إذ ذاك لا تملك "كريستال" إلا أن تستدعي مرجعها الواقعي، ليسَّاقط إلى فضاء الغلاف كل ما ذكرناه عن الكريستال سلفا (راجع عنوان "عن الكريستال" ) أما ما لم نقله فإن مفردة يمكنها أن تشع بكل تلك الدلالات لا أقل من "الذات" وتجربتها يكون العنوان أيقونا ICON ممثلا لها .. إن هذا الأيقون (المشع) معلق في فضاء الغلاف لا يحيل إلى ما يعنونه بل يحيل إلى ما وراءه إلى ذات معلقة في فضاء العالم .. على مسافة منه.
كل موضوع قابل للإدراك يمكن أن يبنى على هيئة العلامة وبنيتها، وتمثل بنية العلامة، عند بيرس ، أساسا صالحا لمقاربة شعرية العنوان، ولنتأمل المخطط التالي:
إذن فالعلاقة بين العنوان والديوان هي علاقة الممثل بما يؤوله، وإذا كان المؤول شعريا فإن شعرية الممثل تكون أولى ، وتتيح - بالتالي - تبادل السمات والخصائص الأكثر جزئية بين الاثنين: العنوان والديوان ..هذه العلاقة التفاعلية بين العنوان والديوان تتجلى على المستوى الطباعي بعض القصائد الحاملة نفس العنوان تتوزع كل قصيدة منها إلى عدد من المقاطع، وكل مقطع يتوزع على مكانين بينهما فراغ، على سبيل المثال:
ذهب الكثيرون إلى أن للمكان فعله في الخطاب الذي يتوزع على سطحها، حتى أطلق البعض مثل "جيوفري ليتش" مصطلح الصفحة الشعرية POETIC PAGE لاستدخال مفهوم المكان ضمن المنظور النقدي في مقاربة الشعر ومنظومته المصطلحية..
لكن الممارسة التحليلية تشير إلى أن الصفحة لا تكون شعرية لمجرد توطن القصيدة فيها، بل ثمة شروط على لغة القصيدة وعلى شكل توزع لغتها في المكان، وفي الأخير لابد منه فاعلية للصفحة في إنتاج نصية قصيدته حتى يمكنها أن تكتسب صفة الشعرية. والتوزيع الطباعي- في الأمثلة السابقة- جليّ ، وجليّ- كذلك- التوزيع الأسلوبي للغة بين الصورة/الوصف المشهدي بأول المقطع ، والتعليق عليه بآخره. والمدهش أن المقارنة البصرية بين الأسود/الطباعي والأبيض الفراغي ( ) في الأمثلة السابقة تشير إلى هيمنة الأبيض على الأسودين الذين يتوسطهما، فكأنه بمثابة الكريستال/أيقونة الذات تسقط عليه فتنعكس عنه تعليقا حادا، في الغالب، حدة أضلاع الكريستال .. هو ذا العنوان يتجول- كما هو حال الدالّ الشعري- بحرية داخل ما يعنونه تاركا فيه وعليه بعض ما يدل عليه.
4
طفل
رسمتُ من عينيه
أفقا حليبيا
غاصتْ روحي
في غابة
عذراء
من كريستال 1
فرق بيّن أن نقول: "طفل رسمت من عينيه أفقا حليبيا " وبين أن نوزع مفردات الجملة السابقة (لو مالأنا النحويين على تقدير مسند إليه محذوف ومن ثم اعتبرناها جملة( كما فعلت الشاعرة ، فهذا التوزيع ليس عبثا ولا تقليدا سارت عليه القصيدة (ليس ثمة تقاليد للشعر الشعر..) ولا الفراغ الذي ينتهي إليه السطر الشعري ليس "دالاّ " مثله في دالّيته مثل اللغة تماما .. الفراغ بداية لتحول السطر الشعري إلى كينونة مغايرة لما يفترضه نظام اللغة فيه .. إنه يقيم مسافة صمت بينه وبين امتداده السياقي ليتحرر في ذاته مما بعده ويحرر ما بعده منه ، لا بنفي أية علاقة بينهما بل بنفي حتمية هذه العلاقة ، بما يسمح للدوال اللغوية أن تحفز فاعليتها لتوسيع دائرة علاقاتها بأكثر مما قدّر النظام اللغوي لها، ومؤسسة إمكان قيام نظام شعري لتبدّي النصية..
وانفراد الكلمة "طفل" بالسطر الشعري، في مثالنا، ثم لتنكيرها كذلك، لا يرفع الدلالة إلى مستوى جمالي مطلق فحسب، بل يداعي كل ما يمكن أن يتداعى إليها من دوال أخرى. وهنا يتأزم الاختيار، وكل أزمة سياقية تطرح تجاوزا للمتوقع والمحتمل وتضاعف وظيفة مساحة الفراغ التي ينتهي إليها السطر السابق، ومن ثم تتضاعف إحالة الضمير في الجملة (غير التامة: رسمت من عينيه) فتحيل إلى الطفل (المعلوم المتقدم) إحالتها إلى.. (المجهول الغائب ) والذي يمثله معنى التذكير في الضمير (- وفي الطفل كذلك) ويأتي تجاوز المتوقع أو المحتمل الثاني فيما يكمل الجملة (: أفقا حليبيا) متطلعا- عبر الصفة-مرة أخرى إلى دلالة الوضع اللغوي في "طفل " بينما اتساع الموصوف: "أفق" يضيف إلى الطفل، وبشكل احتمالي، كل من يمكن أن يمتلك جماليات براءته.
وإذ تسقط كل هذه الاحتمالات على أيقونة الفراغ البيني (الـ/كريستال) تنعكس في عدد من التحولات آخر الضوء/أول انعكاساته هكذا :
عذراء
غابة
غاصت .. طقل
رسمت من ..
أفق
القاعدة أن القراءة تنتقي من بعض العمل ما تتوصل به إلى نتائجها، ثم تنتقي من بعض النتائج ما تبني به العلاقات فيما بينها ، ولا يهمنا إلا الانعكاس الأول: عذراء- طفل الذي يداعي إلى فضاء قراءتنا العذراء الوحيدة التي ولدت، أو الطفل الوحيد الذي ولد لعذراء، لنتعرف لم انفرد الطفل بالسطر الشعري في البداية انفراد العذراء بالنهاية، وتنكير الاثنين .. وليست الدلالة ها هنا، بل في تقديس الذاتي بتوازيه مع المقدس هذا الذي لا يخلو من مأساته الخاصة كذلك.. ( )
السؤال الآن: هل قالت اللغة هذا ؟ إنه سؤال- في زعمنا - خطأ ، غير أننا نؤسس بخطئه اعتقادنا بأن ثمة مسافة بين اللغة واللغة الشعرية، لا تجعل من حضور الأولى في الأخيرة شرطا لدلاليتها، بل إن فرض الصمت على اللغة هو عينه فائض دلالة اللغة الشعرية.
17
مرآة
حملقتْ
في وجهها المنسي
ت ش ظ تْ
إحداهما !
من كريستال 1
فيما يبدو أن الشاعرة "جاكلين سلام" تتبنى مفهوما للكتابة يصل باللغة إلى أقصى درجاتها اختزالا.. ثمة اهتمام بالمساحة.. بالمسافة.. بالتبدي الأيقوني للحرف( /الكلمة) أكثر من الاهتمام بكونه تمثيلا بصريا لصوت هو الأصل، الأمر الذي يؤسس لشكل الوجود على حساب المعنى، بمعنى تبعية المعنى للشكل وتولده عنه.. وقراءة عمل شعري بهذه الخصيصة يجب أن تتمتع بقدرة على استبصار الكلمة لا الإنصات إليها. على هيئة المثال السابق تنفرد "مرآة" بالسطر الشعري مستثمرة الفراغ الطباعي بعدها لتوجد كمرآة لا مجرد كلمة، ومن ثم يمكن تقدير فاعل للجملة التي لم يذكر إلا فعلها: "حملقتْ "، ونصبح إزاء غائبة ما منتصبة إزاء المرآة تتأمل ليس صورتها المنطبعة عليها، بل ذاكرة المرآة نفسها حيث وجه الغائبة المنسي.. هذه طريقة في استبصار للكلمات، غير أن المثال- في النظر اللغوي- يسند الفعل: حملقتْ ، إلى الـ/مرآة وهو إسناد غير مستبعد، بل يمكن إدراجه ضمن هذا الاستبصار وصفا تشييئيا للغائبة. وإذ تقوم الصورة: مرآة منتصبة إزاء أخرى ووجه منسي منطبعا على سطح إحداهما يأتي انعكاسها عبر الفراغ الطباعي مؤكدا على أمرين، أحدهما خاص بالتقنية: تشظية اللغة لبناء الصورة: " تشظت "، أما الآخر فخاص بالدلالة: التسوية بين المرآتين: "إحداهما"، إذ لا فرق.. وإن كنت مع تشظي المشيّأَ/الذات وليس الشيء/المرآة.. فماذا يعني الوجه المنسي إلا لذات منسية ذاتيتها في خضم الشروط المشيِّئةِ لها. وكأن ثمة خطأ تراجيديا أدى إلى هذه النهاية المأساوية هو العبث بمحتويات الذاكرة، تماما كما فعل أوديب، ولم يكن ثم عراف لينهاها!!
1/ 2 : النص و الذات المخبأة ..
يبدو لنا، ومن خلال استقراء الديوان كله وليس فقط قصائد قراءتنا، أن الذات الكامنة في النص ذات لا تعرف كيف تستعلن وإن أرادت . وهل كثرة مقاطع القصيدة الواحدة ، من الكريستالات الأربع ، إلا تفتيت للموضوع=وهو الأكثر حميمية بالنسبة للذات- حتى يتحول من نسيج النص إلى فضائه ؟ وهل تحفيز المكان ليمارس فاعليته فيما يحتويه من لغة إلا تقنية أخرى تجعل من تفتيت الموضوع تفتيتا للغة كذلك ؟ ثم أليس تسليط مبدأ الإزاحة على محور الاختيار ومبدأ الاقتصاد اللغوي على محور التوزيع إلا التقنية الأخيرة في إنجاز استبدال النص بالذات ؟ .. إن الذات النصية ذات يستلبها تفتيت الموضوع في تقنيات تشكيله لغة فلا تأسى على وجودها وهي تستبدل به وجود القصيدة .. حتى في أوضح قصائدها تعبيرا عن ذاتها كما في "كريستال 4" حيث تكاد الذات تستعلن ، تكاد تترك في المكان شيئا من ملامحها.. تمنحه بعضا من صوتها.. في هذه القصيدة تظهر الذات في ضمير وجودها الآني : الـ "أنا" وموجهة خطابها لمقابلها الطبيعي: الـ "أنت" ، وقد توحد بينها وبينه في ضمير الـجمعي الجميل: الـ "نحن" ، إلا أن التقنية لا تفلت النص من قبضتها ولا تدع للذات أن تنفرد بخصائصه. إننا لنشعر بصراع صامت بين حضور الذات وما يتعلق بها وبين تقنيات الأداء الشعري
كريستال 4
-1-
غارَ الهسيسُ في قامة الوردة
فأعْبُر أيها البريُّ،
جدولاً
موجاً
رذاذاً
كلانا ذاهل
والمدى متوحدُ
يا ابتهال العطر
يا التباس النبض
من يضفرُ جدائل الغيمة ؟
من يحرسُ سيمفونية أصابع في مهب البوح ؟
: الوردة - الجدول - الموج - الرذاذ - المدى - العطر - الغيمة ، جميعها مفردات طبيعية، ليست معادلات خارجية للتعبير عما هو داخلي، ولا توسلا ببعض مفردات الطبيعة في تشكيل انفعال النص صورة ، ولا هي- أصلا - موضوع هذا النشيد (السليماني الإيقاع) الصاعد نحو الآخر، ليس شيئا من ذلك بقدر ما هو الهروب العاطفي في المفردة اللغوية، اختباء الذات في حروفها، بل والتعمية على الآخر بالاكتفاء بصفته شديدة التعميم: "أيها البري"، عن ذكره. حتى إذا أوشكت التجربة أن تجرف الذات: "كلانا ذاهل و...." تمت إزاحة مفردة الكشف لتحل محلها مفردة الستر: "والمدى متوحد"، وبدلا من التعبير إن تقريرا أو إخبارا.. إن سردا أو وصفا.. تلتجيء الذات إلى النداء المعمم كذلك: "يا ابتهال العطر" "يا التباس النبض". وفي مقابل التهيؤ التزييني للآخر المنادَى (على الرغم من مداخلة مفردة طبيعية على التصريح به) : "من يضفر جدائل الغيمة ؟ " يقف الخوف ليس من البوح مطلقا، بل حتى من بوح الأصابع: "من يحرس سيمفونية أصابع في مهب البوح ؟ ".. !! أبدا، ليست العناية بما يجب للشعرية من لغة، وإذا لصار الأمر تكلفا لا يتناسب مع بساطة لغة القصيدة واقتصادها، بل هو الموقف السيكولوجي للذات من تجربة نصها يدفعها في الشعر بعيدا عنها منشغلة بجمالياته عن وقائعها، وبتحقق هذه الجماليات عن تحققها هي ذاتها.
2 - 2 : رؤية العالم..
لا نعني بمصطلح رؤية العالم التصورات الطبقية التي حاصر بها "لوسيان جولدمان" مفهوم المصطلح، ولا التنويع النصي على التصورات نفسها التي حاولها "بيير زيما" ( ) ، وإنما نعني به مباشرة موقف الذات من عالمها دونما اشتراط على هذه الرؤية أيا كان هذا الشرط، فكل خطاب لغوي، أيا كان نوعه وأيا كانت مقصديته، ينطوي على رؤية ما للعالم. وفي الخطاب الشعري لدينا : ذات نصية، وعالم افتراضي (أعني عالما متخيلا) تعيشه، وأخيرا لابد ضرورة من وجود رؤية لهذا العالم تؤسس لحركة الذات فيه.. إن ذاتا تهرب من خطابها فيه، وتتخبأ في صمته الفائض الدلالة بما يكفي لتتغيّم ملامحها، لابد لها من رؤية لعالمها/نصها تبرر هذه الحركة (الغريبة) فيه. المدهش أن الشاعرة تعبر عن هذه الرؤية بمختلف تجلياتها تاريخيا وسياسيا واجتماعيا وحتى ثقافيا ، وملتزمة في الوقت نفسه بتقنية الإزاحة- الاقتصاد اللغوي دون أن يلتبس المعنى على القارئ، وفي الوقت نفسه دون أن تقدم جمالياتها قربانا على مذبح المعنى، تقول جاكلين سلام:
7
وطن
قيثارة بلا أوتار
خوذ بلا رؤوس
أحذية
تلبس قامة الأشجار
من كريستال 1
ثمة صورتان للمعنى، أولاهما: صورة واقعية تعتمد السلب وسيلة لتخلية عناصرها الإيجابية مما لها من محمولات، ومن ثم إسقاط الوظيفة. والأخرى: تعتمد الإثبات على قاعدة المجاز الإسنادي لتشكيل سلبيتها. والجامع بينهما المفردة / الموضوع.. موضوع الصورتين: " وطن "، هذه التي تصنع علامة التسوية المأساوية بينهما.
عندما يهدر الجمالي (قيثارة بلا أوتار) وتصاب القوة/السلطة بالجنون (خوذ بلا رؤوس) نكون إزاء هذه الصورة السوريالية لأحذية تغتصب الطبيعي- والطبيعي معادل طبيعي للوطن- (أحذية تلبس قامة الأشجار).. إنها إدانة موضوعية، أو لنقل إدانة صامتة، والصمت- فضلا عن كونه لغة من طبيعة لا فونيمية- هو حافز للكلام/الكتابة في الوقت نفسه. وحين يكون الموضوع هو الوطن، فيجب أن نتوقع ما هو أكثر تصريحا وإيلاما فخلف سوريالية الصورة السابقة علتها التاريخية تدخل في نسق إهدار الجمالي وجنون السلطة: مواطنون بلا فعل:
2
تاريخ
أسطوانة نشاز
جمهور يصفق بتثاقل
الحاكم الأخير
سيعيد دوزان البلاد
من كريستال 1
إن الوطن احتياج كلي يتفرق على بقية احتياجاتنا ليمنحها وصفها أو ليبلور جوهرها.. إنه علاقة مركزية تتفرق على بقية أنواع علاقاتنا لتؤكد على ضرورتها، وافتقاده يحول الحياة إلى ما يشبه التورط بكل أشكالها ووقائعها وعلاقاتها..
وإذ لا وطن في الواقع، ولأداة النفي هذه لها عمقها التاريخي إذ لا وطن- كذلك - في التاريخ، ومن ثم تخرج الذات من صورة/صور الوطن لتفتش
عنه ..
عن شيء منه ..
عن علامة عليه ..
وبكلمة عن إحساسها به
9
خبز
أنتقي" خبز الوطن "
من واجهة المخزن
أعلكه بصمت
وأبكي
وأبكي
جائعة
لأكثر من وطن
من كريستال 1
إن الذات تتخلى عن التصوير وتلجأ إلى السرد، وبالرغم من وجود مسافة بين السردي ، إلا أن الفراغ الطباعي بينهما لا يقوم بوظيفة التسوية بين الاثنين السابقة ، بل إنه محض مسافة تمتلئ بنواتج آخر كلمة في السرد الأول، ليأتي الثاني صرخة ما تنطلق من ألف المد في (جا) حتى تتكسر على ( ئعةُ ) لتستقيم مرة أخرى في التعبير عن الاحتياج الكلي (لأكثر من وطن) .. وهل يتكثر الوطن ؟ نعم على مرايا الغربة.
نكتفي من رؤية العالم بواقع علاقة الذات بالوطن، فهي كفيلة بالتأكيد على مأساة الاغتراب الفعلي والفلسفي الأمر الذي يبرر غياب الذات أو تغيبها قصدا في أكثر تجاربها حميمية، ويعلل عملية الاستبدال الحزين.. استبدال الجمالي بالذاتي الذي يحكم تجربة وجود الذات في نصية، كأنما ثمة تعارض بينهما، وليس ثمة تعارض لولا واقع الاغتراب ووقائع الغربة، هذان اللذان يمكن أن نفهم على ضوئهما قول الشاعرة: " امرأة ٌ تشهق الأسرار على عتبات عزلتها كينونتها تترعرع خلف حدود الجسد " كأنما ثمة تناقض بين الكينونة والجسد!
تعليقات