حوار مع جاكلين سلام حول الكتابة والمنفى... أجراه اسكندر حبش
جاكلين سلام: هناك سياق ذكوري للقصيدة العربية
القصيدة الحديثة لم تعد تلائمها بلاغة الشيوخ
حوار أجراه الصحفي اللبناني اسكندر حبش مع الشاعرة جاكلين سلام عام 2005
جاكلين سلام، من الأسماء الشعرية الجديدة التي بدأت تحفر حضورها في المشهد الشعري العربي الذي يتشكل خارج المركز، أي في تلك (المنافي) البعيدة التي يلجأ إليها الكتاب العرب بحثا عن مكان (يعيشونه بحرية ودهشة دائمة). من هنا ترفض الشاعرة السورية كلمة منفى، بل تسقطها من قاموسها، لتذهب عبر الكتابة (إلى بلاد وشوارع) لتسبغ عليها (رؤية ذاتية غير مطابقة للواقع).
حول تجربتها الشعرية كما حول مجموعتها (كريستال) الصادرة مؤخرا عن (دار الكنوز الأدبية) في بيروت، هذا اللقاء الذي عبر البريد الالكتروني.
جاكلين سلام بدلا من جاكلين حنا الاسم الذي وقعّتُ به القصيدة الوحيدة التي بعثتها للنشر وأنا في سوريا، ونُشرتْ في مجلة أدبية ثقافية اسمها (مواسم) ما زالت قيد الصدور ويشرف عليها الشاعر السوري إبراهيم اليوسف. حين بدأت من كندا، كنت أملك لا شيء! لأدون بدايتي الحقيقية، وبعد أشهر كنتُ ألقي قصيدة في احتفالية بعيد المرأة العالمي، كان كلّ شيء طازجاً ومرتبكاً وغائما وما يزال.
(المنفى) لم يكن إجباريا، كما الوطن الذي ليس إجباريا، كما أشياء أخرى كثيرة نختارها رغم مرارتها إلى حد ما ونبتسم! أدرج هذه الورقة التي تشبه المنفى:
(لا رائحة للتراب هنا، لا تراب إلا في العيون الشواطئ إسفلتية أيضا، هل يحلم موجي بعناق الرمل!
لا كثبان رملية، أعتلي صهوتها أنا المنفى، ويحملني صليبي نحو الهاوية)
هنا وبعد إقامتي القصيرة اشتغلت مديرة تحرير جريدة شهرية (الأفق) ساهمت في نشرات إخبارية (ضد الحصار) على العراق وفعاليات أخرى متفرقة، كلها لم تستمر.
سأسقط كلمة منفى...، وأتحدث عن كندا، المكان الجديد الجميل المتمدن الصقيعي القطبي الشمالي المعقد والملتبس علينا، الذي نعيشه بحرية ودهشة دائمة. غربة حادة أتقاسمها ونفسي والقصيدة.
في تورنتو، في متحف الأحذية مثلاً، أجدُ في كل حذاء قصيدة، حذاء للحب، للعريس والعروس، حذاء للرقص، حذاء لأيام الآحاد، للتزلج، للصقيع، للمعمل... ولكن تلك الأحذية لا تنفك تعيدني إلى هناك، إلى الذاكرة والسؤال هل تسرب الحب من الثقب الذي كان في حذاء حبيبي يوم تهنا في طرقات حلب، في يوم مثلج؟!
لدينا الآن فائض أحذية ولا طرقات على ما يبدو، فأذهب في الكتابة، إلى البلاد، إلى شوارع الطفولة، أشيد مخيلة تسبح عكس السير، تمتلك فطرة تحاول أطوار السنبلة وتعرف كم قطرة حليب فيها، وكم يلزم من السنابل لرغيف طازج، وكم حبة عرق كان ينضح جبين أبي!! وهذا كله يجد مستقرا في أوراق الكتابة، أو يحاول ذلك!
سيرة ذاتية
نصوص هذه مجموعة (خريف يذرف أوراق التوت) حاولتُ أن أسبغ عليها رؤيتي الذاتية، والرؤية الذاتية في النص الأدبي ليست مطابقة للحياة الواقعية التي هي حياة الكاتبة وليست نسخة عنها. هذا لا يعني انفصالي عن تجربتي الحياتية واليومية وخبراتي الشخصية، كان للنص بأن يشيد (وقائعه) وحقيقته التي تضعني في خانة جديدة من العلاقات مع ذاتي، مع الأشياء، مع اللغة التي هي خرائط النص مغاليقه مفاتيحه، ورؤاه.
حاولت في هذه النصوص أن أجتهد وأضع روحي في المستقبل، البعيد قليلا، وخلال رحلة العودة نبشتُ الماضي، وجدتُ في طريقي خسارات وضياعات باذخة وحميمة على ما يبدو...
أعتقد أننا لشدة عشقنا للحياة، وتعلقنا بها، نستعيد بالكتابة حتى الأشياء الصغيرة المفقودة بين طيات الأيام، نعايشها، نعيد خلقها، ونحبها بدراية أكثر وبحزن أيضا، ونعلم أن لحظة الحاضر بعد قليل ستصبح فقدا آخر. الزمن الفيزيائي ينسرب بسرعة لذلك لا أضع في بيتي ساعة حائط أو رزنامة!
في أوراق الخريف والمنشورة حتى الآن فقط الكترونيا، استفدت وسخرتُ كل ما تتيحه قصيدة النثر من أشكال وأساليب، تجاورتِ النصوص في صيغة منولوغ، أو ديالوغ، أو لقطة سردية، قصصية، ومضة، محملة برموز من الأساطير، يختلط فيها الشارع الكندي مع شوارع الذاكرة المقيمة في رأسي، فكانت سيالة شعورية ترسم زمنها الخاص وتنصهر في النهاية في بؤرة أساسية. وفي (كريستال) حاولت أن أستند إلى الحاضر (الصفر) كي لا أفقد البوصلة!
يبدو لي أن التجريب يرتبط بالمخيلة التي طبيعتها القلق والفوضى والتي عدوها الأكبر هو النظام والروتين، في هذه الكتابة بحث عن الحرية واختلاف سبل التعبير، الأسلوب، ربما دليل على صحة المبدع الذهنية المتجددة. نعم ثمة اختلاف واضح (واع أو غير واعٍ) بين (كريستال) وبين أوراق الخريف وبين النصوص الأخرى المكتوبة حديثا، وخاصة تلك التي تندرج في خانة النص المفتوح، وأغلبها منشور في موقعي حاليا.
حتى المكان الأول في عملية الكتابة يستحيل إلى مكان تنتجه وقائع النص، ويطيب لي أحيانا أن أتمادى وأسبغ عليه من صفات الفردوس السليب، ما ليس فيه! هذا الحنين ليس صفة ملازمة للشعراء أو المبدعين فقط. قرأته ولمسته في حكايا وتصرفات أطفال صغار لعائلات شرقية، إذ يغدو فعل الذاكرة حدثا يوميا استرجاعيا. الشوق والحنين وضريبة الغياب، أجدها في دمعة طفلة ابنة صديقتي لم تستطع أن ترسم ابنة عمها، بعد أن تحدثت معها هاتفيا، فراحت تمزق الورق وتبكي وتقول: أنا لا أحبها، ولا هي تحبني، لذلك لا أستطيع رسمها!
الزمن الفيزيائي يختلط مع الزمن الثقافي والزمن الاجتماعي وأكون محظوظة إذا حافظت على بؤرة المكان، نقطة الصفر التي تأخذني في اتجاه الماضي أو المستقبل.
أما المكان الحاضر، فهو مغلفٌ بضباب (واقعي) وضباب الرؤيا، لم أستوعب المكان بعد، وكيف يمكن أن يستمر الضباب كثيفا لمدة يومين وفي ذات الوقت، المطر يهطل غزيرا، وفي حزيران!
المكان الآخر الجديد، يتداعى بين أشياء غريبة في حديثها مع موجودات بيتها، حاضر في خشية الانزلاق في الطريق إلى المقهى الكندي، في الصقيع والثلج وعالم الرسائل الالكترونية، متشبثا بالتوق إلى مزيد من الحياة في الجملة الأخيرة من كريستال (أيتها الحياة... كنتُ كنتُ كنتُ على وشك أن أحبكِ)، وتبقى شمس البلاد بديلا ميتافيزيقيا!
لغة الكتاتيب والشيوخ › تقترب لغتك كثيرا من اللغة اليومية، أي أنها لا تحاول البحث عن مرجعية لغوية بلاغية. كيف تفهمين اللغة الشعرية، بمعنى آخر ما هي الكتابة عندك؟
أعتقد أن قصيدة النثر الحديثة، لم يعد يلائمها الزمخشري وأساس البلاغة، الذي كان صلب الشعر الجاهلي وما بعده، وأيضاً لم تعد تلزمنا كما أعتقد لغة الخطابة القائمة على التلقين والوحدانية في الاتجاه والبهرج المبالغ فيه، وعلى لغة الكتاتيب والشيوخ والتي كانت شائعة حتى وقت قريب في الحارات.
العصر وتقنيات التواصل تغيرت وكذلك طرائق القول والشعر والكتابة.
المجاز والبلاغة في القصيدة الحديثة، يخص كل قصيدة بمفردها، وقد تخلقه حالة التنافر والأضداد، هذا التنافر الذي يولد صدمة أو يستدعي قراءة في المستوى العمودي، متساوقا مع المستوى الأفقي الذي تحيل إليه الكلمة المفردة التي تشكل العبارة، والعبارة التي ترتبط بجارتها لتولد معنى عبر صورة أو تضاد، أو انزياح أو تجاور لحالات قد تبدو للوهلة الأولى غير منطقية في سياقها العام. وإجمالا الحديث عن اللغة الشعرية التي أكتبها يبقى من اختصاص الناقد.
الكتابة، أراها حفرا في سراديب الذات، اشتباكا معها، ثورة وتمردا عليها بالدرجة الأولى، وأمل في ملامسة وإيقاظ الإنساني والمهمش والمعتم فينا وفي الآخر، القارئ(ة ) والمجتمع.
بالعودة قليلا إلى ظروف الشعراء والكتاب المهجريين الأوائل، نجد أننا إزاء واقع مهجري جديد ومختلف. من حيث أسباب الهجرة فهي واحدة يمكن إيجازها إلى: القمع السياسي، الضائقة الاقتصادية، ونادرا عشق السفر والترحال والتجارة.
المهجريون الأوائل، أغلبهم كانوا من سوريا ولبنان، وأعتقد أن المسيحية كانت ديانتهم وكان تمركزهم في أميركا الشمالية والجنوبية جبران/ نعيمة/ نسيب عريضة/ أبي ماضي/ رشيد أيوب/ الأخوان رياض وشفيق معلوف.... الذين في أميركا الشمالية اجتمعوا في (الرابطة القلمية) ووضعوا أسسا لمشروعهم الثقافي، الذي أشرف عليه جبران حتى رحيله.
والذين في أميركا الجنوبية، أسسوا (العصبة الأندلسية) وكان لهم أيضا برنامجهم المختلف ونظرتهم القومية أو التراثية. هذه التجمعات شكلت نسقا وأعطت ثمارا كان لها أثرها الواضح والمختلف على الفكر العربي عموما، سواء من حيث الموضوعات كالتأمل والعلاقة مع الطبيعة، أو الوجودية.... أما ظروف الهجرة أو المنفى الحالي، فلا تنطبق عليه أي من تلك الظروف، إننا اليوم في مجتمع صناعي مادي متقدم وسريع الإيقاع، لم تعد تغرينا فكرة الوحدة العربية والأمة الواحدة، وكل يتمسك بعزلته، ثم يكتب ذات القصيدة الحديثة النثرية، الموغلة في الذاتية والاغتراب الذي غدا سمة العصر وأرق المبدع(ة) شرقا وغربا. الكاتب لم تعد تعنيه تلك المهمات الرسولية التي كان يعتقدها حملة الأقلام والحلم في التغيير، كما لا نغفل أن الشرق لم يعد بعيدا عن هذا الغرب، في ظل العولمة ومنجزاتها الشريرة والجميلة... لذلك أعتقد أنه لا يمكن الحديث حاليا عن أدب مهجري حديث، أقول هذا بحدود معرفتي وإطلاعي!
يبدو لي أن كل المصطلحات في ثقافتنا العربية، عائمة وملتبسة وتخف ارتباكا واجتهادا وانشقاقات مع أو ضد! ولم أجد حتى الآن تعريفا ناجعا لكلمة أنثوي أو نسوي، البعض يطلق التسمية على كل ما تكتبه المرأة من أدب وهذا غير دقيق علميا.
البعض يتصور أن النسوية، هي منبر للدفاع عن حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، وهذا أيضا غير ممكن في القصيدة، وهو خلط بين منبر سياسي أو اجتماعي، وبين الأدب.
الذي أعتقده، أن الأنثوي أو النسوي، لا يكون (جائرا) حين يطلق على كتابة تنتجها المرأة أو الرجل، حين تكون كتابة عن المهمش، عن المعتم، وبالضد تماما من العقلية الذكورية، والكتابة الفحولية التي كانت متساوقة إلى حد كبير مع القصيدة العمودية وبحور الخليل. وأميل إلى هذا القول لأنه لا يخفى على أحد السياق الذكوري الذي تضخه الثقافة العربية، والذي تحمله النساء أيضاً في بعض الأحيان.
ويعجبني ما يطرحه الدكتور عبد الله الغذامي حين يؤكد أن (تأنيث القصيدة) تم على يد نازك الملائكة بكسرها فحولة العمود الشعري، وظهرت القصيدة (المؤنثة) لاحقا بشكل ناضج في قصائد السياب (أنشودة المطر والمومس العمياء).
ورغم أن المصطلحات الأدبية لا يمكن حصرها في مفردات كما المصطلح العلمي الصرف، إلا أنه يلزمنا التأكيد على (النقد الثقافي) للخلوص إلى نصوص وواقع مدني إنساني، يتجاوز هذا الواقع، الذي نتحدث فيه يوميا عن الحرية والديمقراطية ولكننا نمارس السجون والرقابة الفظة والتكفير.
السفير
2003/06/23
تعليقات