مقال جاكلين سلام حول شهادات كتاب كنديون وتجربة نشر الكتاب الأول
كندا: جاكلين سلام
هذه الانطولوجيا «الكتابات الأولى» تعرفنا على تجربة أكثر من ثلاثين
كاتبا كندياً بين شاعر وقاص وروائي، وتمكننا من متابعة ورؤية أحوال الكاتب اليومية
والنفسية والتحديات التي لابد أن تواجهه وهو يخرج من عزلته وزمنه الخاص وركنه
الأثير إلى عالم آخر مختلف كلياً، وهو عالم البحث عن ناشر يرحب بالمخطوط أو يرفضه.
وهي قضية تستدعي في أذهاننا تجربة الكاتب العربي، مع الفارق الكبير بالطبع،
فالمفارقة هائلة والآلية مختلفة تماماً. عالم النشر العربي له تفاصيله وحساباته
الغريبة عن كل تقاليد النشر في العالم، على حساب الكاتب الذي يدفع من جيبه لإخراج
منتوجه إلى السوق كما هو، مما انعكس سلباً على الذائقة العامة، الكساد، وقاد إلى
ظهور الطفيليين على عالم الأدب والتأليف، وما يتبع ذلك من تدهور في مكانة الأدب
وقيمته. دور النشر العربية على الغالب ليست معنية بمراجعة الكتاب أو البحث في
تفاصيله الجمالية الفنية الإبداعية، إلا ما ندر، فمن يدفع يطبع، وحده الرقيب
السياسي والديني هو الذي يحشر أصابعه في عيون النص وشرايينه ويقوم بتقطيع أوصاله
أحياناً بحجة الحفاظ على القيم والتقاليد وسلامة الوطن والأمة.
أن يبدأ الكاتب الكندي بالبحث عن ناشر، لابد أن يكون مستعدا دوماً
لتلقي «الرفض» لأسباب يعلنها الناشر أو تبقى غامضة، وخاصة حين يكون الكاتب متقدماً
إلى الناشر بكتابه الأول من دون إرث مسبق يدعم خطوته.
في هذا الكتاب الذي يشمل مقالات عميقة الصدق والمكاشفة، نقع على
حكايات قاسية أو لنقل مريرة، وأخرى فكاهية وساخرة، تتكلل في النهاية بنتيجة
إيجابية.
تتحدث إحدى الكاتبات عن هذه التجربة وتنقل لنا بعضا مما كانت تدونه
في دفتر يومياتها وهي تخوض تجربة البحث عن ناشر: «أتخيل نفسي عجوزا متقاعدة لا
تحسن الوقوف حين يصلني ذاك الخبر السعيد وتصبح روايتي المخطوطة كتاباً يقرأه الآخرون».
هؤلاء الكتاب الذين تضيق بهم السبل لإيجاد ناشر يعترف بموهبتهم،
كثيرا ما يلجأون للتسجيل في «ورشات الكتابة الإبداعية»، التي تتيح لهم فرصة القاء
بأقرانهم من «المحبطين والمتأملين» الذين يخوضون مثلهم تجربة الرفض والقبول والبحث
عن دار الناشر الأمثل. هناك يجدون متنفساً وحلقة اجتماعية، ويعثرون على من يتقاسم
معهم هموم الرحلة وعثراتها، كما يستفيدون من نصائح الاستاذ الخبير في نقد
كتاباتهم، وهي نصائح قد تصيب أو تخيب.
تقول احداهن: «كنت أتلقى أي «بروشور» يعلن عن ورشة عمل للكتّاب بلهفة
واهتمام يفوق اهتمام الطفل بالبحث في صفحة الألعاب أو الكاتالوج عن هدية عيد
الميلاد التي يحلم بها». وهناك يواجهون سؤال بعضهم بعضا «هل عندك كتاب أم لا؟».
وحين يوجد كاتب واحد سبق وأن طبع كتاباً يقابل بالحسد أو الغيرة، وقد يغدو التواصل
معه أو معها مربكاً.
كاتبة أخرى تشرح تجربتها بالقول: «لقد كتبت قائمة بأسماء وعناوين دور
النشر الكبيرة والصغيرة، ثم اختصرت القائمة إلى قائمة أصغر وبدأت بارسال المخطوط
مشفوعا برسالة مفتوحة مع عنواني البريدي وهاتفي وظرف عليه طابع لإرجاع المخطوط
إليّ ممهوراً بالقبول أو الرفض، أو بملاحظات المحرر الذي يطلب إجراء تعديلات على
النص قد تكون طفيفة أو محورية. ارسلتُ كتابي وقلت لنفسي لن أهتم ولن اشغل نفسي بعد
لكنني لم أنج من التفكير في مصير كتابي، وصرت عرضة للكوابيس والاستيقاظ في منتصف
الليل لأعيد قراءة بعض الصفحات. مرة استيقظت من حلم كابوسي رأيت فيه الكاتبة
مارغريت أتوود والروائي مايكل أونداتجي يتلذذان بالشواء على نار كتابي المحترق.
وواظبتُ على القول بأنني لن أهتم بعد، لكنني وضعت الكرسي أمام باب البيت بحيث يصبح
بإمكاني رؤية ساعي البريد وهو قادم. وهكذا تلقيت عدداً من رسائل الاعتذار والرفض
إلى أن وصلتني تلك الرسالة السحرية: القبول».
أحيانا يأتي القبول المبدئي من قبل الناشر، ولكن بشرط أن يقوم الكاتب
بتعديل فقرات بكاملها، أو إعادة كتابة المخطوط الذي قد يأخذ طريقه للنشر بعد عام
وربما أكثر. وتصف كاتبة أخرى الجهد والأرق والمثابرة التي لا تخلو من المتعة، وهي
تعيد النظر في التغييرات المقترحة من قبل المحرر المعتمد لدى دار النشر. وتشير إلى
«أن تنقيح أو تعديل المخطوط الشعري والاشتغال عليه يكون أقل صعوبة من تعديل مخطوط
رواية منجزة في نسختها الأولية. وفي حالتي هنا كانت الصعوبة فادحة، إذ طلب المحرر
أن يتم التخلص من إحدى الشخصيات، واختراع شخصية بديلة، كما اقترح تغيير النهاية
ايضاً». وأحيانا يطال التغيير العنوان أيضا. ولكن كل ذلك يجري بموافقة الكاتب
أولاً.
عملُ المحرر والناشر ليس ثانوياً وليس محصورا في قبول الكتاب أو رفضه
وتحرير العقد وحقوق الملكية، بل نجد الناشر معنياً بتفاصيل قد لاتخطر على بال
الكاتب. يقول احدهم: «يرى الناشر أن هذه الحديقة يجب أن تكون أكثر جمالاً، وهنا
يجب أن تصبح أكثر صفرة، وهناك يجب التخفيف من اللون الرمادي...».
تتنوع المقالات التي ضمتها الانطولوجيا ما بين الحديث عن الفرح
والبهجة والمعاناة في طور البحث عن ناشر، كما تتعرض لجانب آخر وهو العزلة والقلق
الذي يرافق مرحلة الكتابة، وكذلك الأحلام العريضة التي يتوقعها الكاتب ما أن ينشر
كتابه. فنجد كاتبا يصف حالة الفقر والترحال التي يعيشها مع إصراره الكبير على
إنهاء كتابه، ويسخر من نفسه إذ كان يتوقع أن تقع الفتيات الجميلات في شباكه ما أن
يصبح كاتباً. ويصف محاولته للسفر إلى مدينة أخرى يكون فيها قريبا من «العقول
المثقفة والكاتبات الجميلات» لكنه يصاب بالصدمة وينتهي به المطاف للإقامة في شقة
متواضعة، يلتقي فيها مع كاتب آخر» فشل» في تحقيق حلمه في النشر. هناك يتبادلان
الهموم المشتركة والشكوى إلى أن يأتيه الفرج ويلتقي بناشر يوافق على نشر روايته.
وحين يضع أمامه غلاف الرواية يراه «بشعا» غير أنه يبتسم ويوافق عليه. ويصدف أن
ترفض دار نشر كتاباً ما، لكنه يحظى بقبول سريع من دار نشر أخرى، لذلك يجب ان يبحث
الكاتب عن «ذائقة» كل دار قبل أن يباشر بمراسلتهم ويضيّع وقتاً بانتظار رد قد
لايصل إلا سلبياً.
الجانب الآخر الذي يتطرق إليه الكتّاب في هذه الأنطولوجيا في صفحاتها
المائة والخمسين، هو الانفعال الذي يصاحب عملية النشر، من حوارات إذاعية أو
تلفزيونية أو صحافية، والأثر النفسي الذي يعقب نشر صورة الكاتب أو الكاتبة في
الصحيفة لأول مرة، وكذلك القلق الذي قد يرافق تجربة القراءة الأولى في مهرجان كبير
يحضره كبار الأدباء والفنانين، وكذلك حين يجري توقيع الكتاب، أو القراءة في مكتبة
ما يقتصر الحضور فيها على الكاتب والناشر وموظفة المكتبة.
مفارقات فكاهية وأخرى مؤلمة، نقرأها في محاولات هؤلاء الكتاب الذين
يحاولون تقليص الهوة ما بين عالم الكتابة الداخلي والعزلة المصاحبة له، والجانب
الآخر الذي يستدعي الحضور والتواصل مع القارئ والأصدقاء، والبحث في سبل التسويق
والبيع.
تعليقات