فضل خلف جبر يكتب عن كريستال الشاعرة جاكلين سلام
إعادة تركيب الوجود نصيا وخرق صرامة اللغة
مقال كتبه الشاعر العراقي فضل خلف جبر، اثر صدور كريستال للشاعرة جاكلين سلام عام 2002
نشر في موقع نسابا عام 2003
لاحظت، منذ متابعتي لكتابات الشاعرة جاكلين سلام خلال سنتين، إن الشاعرة حرصت، ومنذ بداية انطلاقتها الشعرية، على أن تقدم قصائدها تحت أفق، جهدت أن يكون مجسدا لملامح مشروعها الشعري الخاص. فقد لفت انتباهي إن الشاعرة تكرر، وبشكل مثير للدهشة، مفردات بعينها، مما جعل هذه المفردات تنمو وتترعرع في مخيلة الشاعرة حتى تنسج أفقها الواسع. فلو دقق القارئ ملياً، في ديوان جاكلين لوجد أن مفردة " الزرقة"، مثلا، والتي سأتوقف عندها طويلا، بكل اشتقاقاتها ( أزرق، زرقاء، زرقة....)، أو مرادفاتها وتداعياتها ( الموج، السماء، المسافة، الأثير، ) تترحل من كونها مجرد مفردة لتتحول إلى مفهوم، وبمعنى آخر، إن مادة الزرقة تترحل من منظومتها اللغوية إلى منظور دلالي أكثر سعة واكتنازا.
ليست مفردة الزرقة وتداعياتها، ما أعطى جاكلين حرية الحركة والتعبير والمناورة، بل هناك الكثير من المفردات والألوان التي عاملتها الشاعرة بإكسير الشعر، لتتحول إلى متبلّرات تشع دلالة ذات بريق غامض. فالزرقة، مثالا، وبعيدا عن أدائها القاموسي، هي مادة طبيعة خاملة محايدة. وقد تم ربطها، من خلال عملية معقدة تتعلق بتجربة الجنس البشري مع الطبيعة وظواهرها؛ ببعض عناصر الطبيعة. فأنت حين تسمع مفردة الزرقة، أو إحدى اشتقاقاتها، سيتبادر إلى ذهنك مباشرة صورة البحر أو السماء، أو أي شيء آخر يحمل اللون الأزرق، وتمت عملية تكريسه في منظومة الدماغ. وحين يتساءل المرء: ما معنى أن السماء زرقاء؟ وما معنى أن العشب أخضر؟ وما معنى أن القار أسود؟ ما معنى كل هذه الألوان؟ كيف استقرت كمسلمات ثابتة؟ وهل هي مفاهيم أم مجرد أوعية لفظية؟ وهل بالامكان إعطاء تعريف قاموسي محدد للون بعيدا عن مدلوله البصري؟ ولن يكون بالامكان الحصول على أجوبة مقنعة لكل هذه الأسئلة. إن ما نريد الوصول إليه هو إثبات أن اللون، في تمظهره الخارجي، إنما هو بحاجة إلى ما يمنحه محموله الدلالي. وعلى هذا الأساس، يصبح لدينا أن اللون، أي لون، ما هو إلا عبارة عن نص تجريدي عام بحاجة إلى هامش دلالي يؤوله، وهذا الهامش هو المعامل الكيميائي الذي سوف يفجر طاقته الرمزية. ووفق هذا الفهم لطبيعة الدال والمدلول والنص وهامشه، نستطيع فهم التوليدات البنائية التي تضمنها ديوان " كرستال". إن ما يمنحك الدهشة في قول الشاعرة " أمسح جدائلي الزرقاء" هو هذا الانحراف عن السياق الذي أحدثته الشاعرة حين أضافت الزرقة، بكل تكريسها وتداعياتها، إلى الجدائل. وما كنا سنفاجئ، أو نهتم لو أن الشاعرة قالت "جدائلي السوداء أو الشقراء"، لأن هذا هو المألوف البصري العام المرتبط بالجديلة. وسنأخذ مثالا آخر تطبيقيا لتوضيح الكيفية التي يلعب فيها اللون، والزرقة بالذات، دورا رئيسيا في تأسيس جدل من نوع شفيف، ما أن تعتقد انك أمسكت به من شغاف جوهره؛ حتى تكتشف انه ينزلق من بين حدقتيك كسمكة لعوب:
- " حاورت طويلا جداول الصمت
لا لحكمة
ربما، لأنني هكذا
موجة زرقاء"
في هذا المقطع الصغير، والذي يبدو بريئا وتلقائيا، تكمن معمعة هائلة من الروابط والموصلات. وإننا نؤثر، قبل النظر في البنية التي يتأسس عليها النص، إن نشير إلى أن من بين المفردات الإحدى عشرة والتي يتكون منا نسيج النص، هناك خمسة مفردات مشعة فقط، أما ما بقي فيدخل في حساب العوامل المساعدة للإشعاع.
حسن، إن من نافل القول، التنويه إلى أن الطبيعة قد حسمت قراراتها بشأن الكثير من الموجودات، ومن بينها قوانين اللون. فقد ترسخت الألوان في الطبيعة عبر ملايين السنين. الألوان الأساسية في الطبيعة ثابتة لا تتغير. "صبغة الله. ولن تجد لصبغة الله تبديلا" -القرآن الكريم- فلون الدم، في جميع الكائنات ذات الدم الحار، أحمر. هذا طبيعي ومنطقي. لكننا سوف نشعر بالقشعريرة تسري في أجسادنا ويقف شعر رؤوسنا رهبة حين نسمع كلمة " الدم الأزرق"، فهذه شفرة خاصة، ابتكرتها المخيلة الشعبية لإلصاقها بالجن. ومن لا يخاف الجن؟ وقد استثمرت هذه الشفرة، في ما بعد، لإلصاق الملوكية بها، لفاعليتها. فملك أو أحد أفراد عائلته لا يمكن أن يُساوى بالعامة، ولعدم وجود ما يمكن أن يميز بين ملك ورجل من عامة الناس في التكوين الخارجي للجسم، فقد تم اللجوء إلى تخريج، بالادعاء أن الفارق الجوهري بيننا، عامة الناس، وبين الملوك ونسلهم، هو الدم، فالملوك يجري في عروقهم " دم أزرق". وبهذا زرعت المهابة في نفوس عامة الناس، وصار تبجيلهم أمرا يكاد يدخل مدار التقديس الديني.
إن خرق صرامة الطبيعة لا تتوقف عند حدود الجن والدم الملكي، بل تتعداه إلى عناصر أخرى من الكائنات، فالنباتات تخرق النظام العام أحيانا، ولكن المختصين في علوم النبات لم يحلقوا بعيدا في الخيال، بل صنفوا هذه النباتات على أنها استثناءات طبيعية. و فعلوا الشيء ذاته بالنسبة للحيوانات التي لا تخضع لنظام الطبيعة بأنها، فقالوا أنها " نادرة".
بعد هذا التمهيد، نعود إلى المقطع الشعري. ولنبدأ بالسطر الأول " حاورت طويلا جداول الصمت". والسؤال التلقائي الذي سوف نطرحه للجدل: ما الذي يمكن أن يتحقق من محاورة جدول، أو جداول صمت؟ لا شيء، على الإطلاق، ومن منظور رياضي: صمت، أي لا شيء، صفر على يمين المطلق. فلنسقط السطر الأول من الجدل، لعدم توفره على أية قيمة موجبة. لنذهب إلى السطر الثاني: " لا لحكمة" فلا نرى أية قيمة شعرية يمكن أن تحققها هاتان المفردتان، لأنهما، ببساطة عنصران غير مشعين. فإلى المقطع الثالث: "ربما، لأنني هكذا"، وليس هذا المقطع بأفضل من سابقه، كون إننا لا نستطيع أن نستخلص أية إضافة فاعلة إلى النص. فلننتقل إلى المقطع الأخير: "موجة زرقاء"، وهذا هو الموضع السري الذي وضعت فيه الشاعرة زر الإشعاع. إن على القارئ أن يعبر ثلاثة جسور، في حالة هذا المقطع، ليصل إلى مفتاح اللغز. وهنا علينا إعادة بناء النص السابق، بإسقاط ما يمكن أن يكون فائضا عن الحاجة الشعرية، ليكون كالتالي:
" حاورت الصمت
لأنني
موجة زرقاء"
الآن يصبح بامكاننا تفسير القدرة الخارقة التي تملكها الشاعرة لمحاورة الصمت، ليس هذا وحسب، بل حاورته طويلا. هل نقول إنها تمكنت من فعل ذلك لأنها " جنية" مثلا، أو " ملكة" أو " حفيدة ملك"؟ على الأغلب إنها لم تكن هذه ولا تلك، وسر الطاقة التي تمكنها من فعل المستحيل، هو كونها شاعرة، شاعرة تجيد إعادة تركيب الوجود نصياً وخرق صرامة اللغة.
موقع نسابا، عام 2003
مقال كتبه الشاعر العراقي فضل خلف جبر، اثر صدور كريستال للشاعرة جاكلين سلام عام 2002
نشر في موقع نسابا عام 2003
لاحظت، منذ متابعتي لكتابات الشاعرة جاكلين سلام خلال سنتين، إن الشاعرة حرصت، ومنذ بداية انطلاقتها الشعرية، على أن تقدم قصائدها تحت أفق، جهدت أن يكون مجسدا لملامح مشروعها الشعري الخاص. فقد لفت انتباهي إن الشاعرة تكرر، وبشكل مثير للدهشة، مفردات بعينها، مما جعل هذه المفردات تنمو وتترعرع في مخيلة الشاعرة حتى تنسج أفقها الواسع. فلو دقق القارئ ملياً، في ديوان جاكلين لوجد أن مفردة " الزرقة"، مثلا، والتي سأتوقف عندها طويلا، بكل اشتقاقاتها ( أزرق، زرقاء، زرقة....)، أو مرادفاتها وتداعياتها ( الموج، السماء، المسافة، الأثير، ) تترحل من كونها مجرد مفردة لتتحول إلى مفهوم، وبمعنى آخر، إن مادة الزرقة تترحل من منظومتها اللغوية إلى منظور دلالي أكثر سعة واكتنازا.
ليست مفردة الزرقة وتداعياتها، ما أعطى جاكلين حرية الحركة والتعبير والمناورة، بل هناك الكثير من المفردات والألوان التي عاملتها الشاعرة بإكسير الشعر، لتتحول إلى متبلّرات تشع دلالة ذات بريق غامض. فالزرقة، مثالا، وبعيدا عن أدائها القاموسي، هي مادة طبيعة خاملة محايدة. وقد تم ربطها، من خلال عملية معقدة تتعلق بتجربة الجنس البشري مع الطبيعة وظواهرها؛ ببعض عناصر الطبيعة. فأنت حين تسمع مفردة الزرقة، أو إحدى اشتقاقاتها، سيتبادر إلى ذهنك مباشرة صورة البحر أو السماء، أو أي شيء آخر يحمل اللون الأزرق، وتمت عملية تكريسه في منظومة الدماغ. وحين يتساءل المرء: ما معنى أن السماء زرقاء؟ وما معنى أن العشب أخضر؟ وما معنى أن القار أسود؟ ما معنى كل هذه الألوان؟ كيف استقرت كمسلمات ثابتة؟ وهل هي مفاهيم أم مجرد أوعية لفظية؟ وهل بالامكان إعطاء تعريف قاموسي محدد للون بعيدا عن مدلوله البصري؟ ولن يكون بالامكان الحصول على أجوبة مقنعة لكل هذه الأسئلة. إن ما نريد الوصول إليه هو إثبات أن اللون، في تمظهره الخارجي، إنما هو بحاجة إلى ما يمنحه محموله الدلالي. وعلى هذا الأساس، يصبح لدينا أن اللون، أي لون، ما هو إلا عبارة عن نص تجريدي عام بحاجة إلى هامش دلالي يؤوله، وهذا الهامش هو المعامل الكيميائي الذي سوف يفجر طاقته الرمزية. ووفق هذا الفهم لطبيعة الدال والمدلول والنص وهامشه، نستطيع فهم التوليدات البنائية التي تضمنها ديوان " كرستال". إن ما يمنحك الدهشة في قول الشاعرة " أمسح جدائلي الزرقاء" هو هذا الانحراف عن السياق الذي أحدثته الشاعرة حين أضافت الزرقة، بكل تكريسها وتداعياتها، إلى الجدائل. وما كنا سنفاجئ، أو نهتم لو أن الشاعرة قالت "جدائلي السوداء أو الشقراء"، لأن هذا هو المألوف البصري العام المرتبط بالجديلة. وسنأخذ مثالا آخر تطبيقيا لتوضيح الكيفية التي يلعب فيها اللون، والزرقة بالذات، دورا رئيسيا في تأسيس جدل من نوع شفيف، ما أن تعتقد انك أمسكت به من شغاف جوهره؛ حتى تكتشف انه ينزلق من بين حدقتيك كسمكة لعوب:
- " حاورت طويلا جداول الصمت
لا لحكمة
ربما، لأنني هكذا
موجة زرقاء"
في هذا المقطع الصغير، والذي يبدو بريئا وتلقائيا، تكمن معمعة هائلة من الروابط والموصلات. وإننا نؤثر، قبل النظر في البنية التي يتأسس عليها النص، إن نشير إلى أن من بين المفردات الإحدى عشرة والتي يتكون منا نسيج النص، هناك خمسة مفردات مشعة فقط، أما ما بقي فيدخل في حساب العوامل المساعدة للإشعاع.
حسن، إن من نافل القول، التنويه إلى أن الطبيعة قد حسمت قراراتها بشأن الكثير من الموجودات، ومن بينها قوانين اللون. فقد ترسخت الألوان في الطبيعة عبر ملايين السنين. الألوان الأساسية في الطبيعة ثابتة لا تتغير. "صبغة الله. ولن تجد لصبغة الله تبديلا" -القرآن الكريم- فلون الدم، في جميع الكائنات ذات الدم الحار، أحمر. هذا طبيعي ومنطقي. لكننا سوف نشعر بالقشعريرة تسري في أجسادنا ويقف شعر رؤوسنا رهبة حين نسمع كلمة " الدم الأزرق"، فهذه شفرة خاصة، ابتكرتها المخيلة الشعبية لإلصاقها بالجن. ومن لا يخاف الجن؟ وقد استثمرت هذه الشفرة، في ما بعد، لإلصاق الملوكية بها، لفاعليتها. فملك أو أحد أفراد عائلته لا يمكن أن يُساوى بالعامة، ولعدم وجود ما يمكن أن يميز بين ملك ورجل من عامة الناس في التكوين الخارجي للجسم، فقد تم اللجوء إلى تخريج، بالادعاء أن الفارق الجوهري بيننا، عامة الناس، وبين الملوك ونسلهم، هو الدم، فالملوك يجري في عروقهم " دم أزرق". وبهذا زرعت المهابة في نفوس عامة الناس، وصار تبجيلهم أمرا يكاد يدخل مدار التقديس الديني.
إن خرق صرامة الطبيعة لا تتوقف عند حدود الجن والدم الملكي، بل تتعداه إلى عناصر أخرى من الكائنات، فالنباتات تخرق النظام العام أحيانا، ولكن المختصين في علوم النبات لم يحلقوا بعيدا في الخيال، بل صنفوا هذه النباتات على أنها استثناءات طبيعية. و فعلوا الشيء ذاته بالنسبة للحيوانات التي لا تخضع لنظام الطبيعة بأنها، فقالوا أنها " نادرة".
بعد هذا التمهيد، نعود إلى المقطع الشعري. ولنبدأ بالسطر الأول " حاورت طويلا جداول الصمت". والسؤال التلقائي الذي سوف نطرحه للجدل: ما الذي يمكن أن يتحقق من محاورة جدول، أو جداول صمت؟ لا شيء، على الإطلاق، ومن منظور رياضي: صمت، أي لا شيء، صفر على يمين المطلق. فلنسقط السطر الأول من الجدل، لعدم توفره على أية قيمة موجبة. لنذهب إلى السطر الثاني: " لا لحكمة" فلا نرى أية قيمة شعرية يمكن أن تحققها هاتان المفردتان، لأنهما، ببساطة عنصران غير مشعين. فإلى المقطع الثالث: "ربما، لأنني هكذا"، وليس هذا المقطع بأفضل من سابقه، كون إننا لا نستطيع أن نستخلص أية إضافة فاعلة إلى النص. فلننتقل إلى المقطع الأخير: "موجة زرقاء"، وهذا هو الموضع السري الذي وضعت فيه الشاعرة زر الإشعاع. إن على القارئ أن يعبر ثلاثة جسور، في حالة هذا المقطع، ليصل إلى مفتاح اللغز. وهنا علينا إعادة بناء النص السابق، بإسقاط ما يمكن أن يكون فائضا عن الحاجة الشعرية، ليكون كالتالي:
" حاورت الصمت
لأنني
موجة زرقاء"
الآن يصبح بامكاننا تفسير القدرة الخارقة التي تملكها الشاعرة لمحاورة الصمت، ليس هذا وحسب، بل حاورته طويلا. هل نقول إنها تمكنت من فعل ذلك لأنها " جنية" مثلا، أو " ملكة" أو " حفيدة ملك"؟ على الأغلب إنها لم تكن هذه ولا تلك، وسر الطاقة التي تمكنها من فعل المستحيل، هو كونها شاعرة، شاعرة تجيد إعادة تركيب الوجود نصياً وخرق صرامة اللغة.
موقع نسابا، عام 2003
تعليقات