أنا حبة الرز. ضحايا الحروب والأمرض السارية بالارقام في معرض حبات الرز الكندي
أنا حبة رز، أنا لست وحدي
حبات الرز تحصي السكان، قتلى الحروب والسجناء في كندا والعالم
تورنتو-جاكلين سلام
اختتم العرض في مدينة تورنتو عن حبة الرز. إحصائيات من خلال حبة رز، تخبر عن عدد القتلى، المرضى، المهاجرين. في صالة العرض 897 مليون حبة من الرز، ما يعادل 12 طن من الرز، ما يعادل وزن 11 سيارة، أو 945 بسكليت!. كل حبة تمثل نسمة من العالم. الانطباع الذي ستخرج به من المعرض الغريب الطريف بأنك لست وحدك، بأنك تنتمي إلى كتلة ما. تمثلك حبة الرز بين الأكوام الموزعة بعناية على أرضية بيضاء منتشرة في صالة بقاعتين كبيرتين في مبنى "هابرفرونت سنتر" المخصص للعمارض والقراءات والمهرجانات الشتوية والصيفية على مدار السنة. لست وحدك إن كنت مصاباً بالحمى المكسيكية، لست وحدك ان كنت من ضحايا الحرب على العراق، لست وحدك ان كنت مهاجراً الى كندا أو أمريكا، لست وحدك ان كنت من الضحايا-العابرين بشكل غير قانوني المنطقة الحدودية بين المكسيك وأمريكا.... لست وحدك إن كنت سجينا في العالم-ذكراً أو أنثى. وحدك وتمثلك حبّة رز واحدة إن كنت"ستيفن هابر- رئيس وزراء كندا، أو ميكاييل جان- القائمة بمنصب الحاكم العام الحالي في كندا. ولست وحدك الذي يتجول في هذا المكان بين أكوام الرز مندهشاً ممعناً النظر في الإحصائيات والكلمات المعدودة المكتوبة بالحبر الأسود على أطراف الكرتون الأبيض المقوى. الطقس يشي بحكايات كثيرة تخفيها الأضواء الخافتة الموزعة بعناية في صالة العرض، ويختلط عالمك هنا بالضوضاء والكلام غير الواضح، القادم من آلة تسجيل خفية تسرد أخباراً من العالم. ليست تورنتو المدينة الأولى التي استقبلت هذا العرض لمدة أسبوع، إذ سبق أن قدم لأول مرة في انكلترا عام 2003 وبدعم من القنصلية البريطانية، وانتقل بعدها إلى عدد من دول اوربا واستراليا.
"عن كل الناس في العالم " عنوان العرض الذي جرى العرض تحت إشراف ( ستان كافيه) وبمشاركة فريق من الشباب الذين يتواجدون في صالة العرض للرد على أسئلة الحضور ولتحديث الإحصائيات وتسجيل ملاحظات الزوار ومقترحاتهم. الغاية من العرض تمثيل الحراك البشري المعاصر وتفهم أفضل لموقع الفرد. حين سألنا أحد القائمين على تنسيق العرض عن كيفية عدّ حبات الرز، قال انهم يعدون حبات الرز حين تكون الكمية قليلة، ويستخدم الميزان للكميات الكبيرة. كل 60 حبة رز تزن مقدار أونسة. صاحب الفكرة هو الانكليزي جيمس ياركر& كريج ستيفنس، ويتم تنفيذها بالتعاون مع فريق عمل.غاية العرض تمثيل روح المدينة التي يحضر فيها، ويرتكز على الامريكيتين.
أثناء التجوال في المركز، كان أحد العاملين يضيف كومة جديدة من الرز على طبق كرتوني أبيض. سألته عن هذه الإحصائية فقال: انها نسبة الناس الذين يعانون من السمنة في تورنتو، وفق إحصائيات المراكز الصحية والعيادات.
عند دخولك صالة العرض، ستجد طاسة في المدخل كتب عليها"تفضل، خذ حبة رز" وربما ذلك لتعداد عدد الزوار، إذ هناك طاسة أخرى في الجهة الأخرى من الصالة، فيها حبوب تشير إلى عدد زوار المعرض خلال فترة العرض. أول كومة تستقبلك وأنت تهم بالدخول إلى المعرض تمثل "عدد الذين سيولدون في العالم اليوم، فتبتسم للخبر، ثم تقطب إذ تجد بجانبها كومة تشير إلى عدد الذين سيموتون اليوم.
الإحصائيات تركز على عدد السكان، عدد المهاجرين من عرق ما في عام ما، كتمثيل عدد الكنديين الاصليين في بداية اكتشاف كندا وعددهم اليوم، عدد المهاجرين إلى تورنتو. الكومة الهائلة الحزينة كانت الاحصائية التي تمثل عدد السجناء في العالم. كانت كبيرة، وبجانبها كومة أصفر تمثل عدد السجناء الذكور في كندا، وإلى جوارها حفنة أصغر تمثل عدد النساء السجينات في كندا. تطالعك كومة ضخمة تمثل عدد ضحايا الحرب العالمية الأولى، وأخرى تمثل ضحايا الحرب العالمية من كندا، وأخرى تمثل الضحايا المدنيين في العراق منذ عام 2003، ثم حفنة تمثل عدد القتلى من الجيش الأمريكي في العراق منذ عام 2003...إحصائيات مشابهة عن ضحايا الحرب في افغانستان، الحرب الاهلية الأخيرة في سيريلانكا، عدد ضحايا الايدز في العالم، الافريقيين الذي تم استقدامهم كعبيد الى امريكا في بداية رحلة العبودية. كل كومة رز تحمل رسالتها، وتثير في الزائر إحساساً عاطفيا ما، قد يكون استنكارا، حزناً أو ابتسامة. بالإضافة إلى هذه المعلومات التي تحملها حبة الرز عن الحروب والكوارث الصحية وضحايا الأعاصير التي أصابت منطقة الامريكيتن مؤخراً، نجد دراسات تشير إلى التوزع الطبوغرافي والسكاني لبعض دول العالم. حبات الرز على بقعة بيضاء تشير إلى عدد السكان في كل كيلومتر مربع. ونجد زوايا تمثل عدد ضحايا السفينة الشهيرة "تيتانيك" وعدد العاملين فيها، ثم حبة رز واحدة تمثل المغنية الكندية الشهيرة "سيلين ديون" التي رافقت بصوتها الرائع تلك التراجيديا. وهناك ما يمثل الأمهات الوحيدات، عدد اللاجئين في تورنتو، عدد العاملين، العاطلين عن العمل.
مشيت بين الأكوام وأنا أبحلق في هذه البشرية التي تمتد أمامي بكوارثها وحروبها، بعدد ضحاياها، سكانها الذين يعيشون ويموتون في هذه الساعة ونحن نجوب صالة العرض. بحثت عن نفسي وسألت في سري :إلى أي كومة رز أنتمي اليوم؟ وجدتُ لي تمثيلا في كومة تمثل سكان تورنتو. فقلت: لست وحدي، إنني جزء من مدينة هائلة الحجم ومختلطة الأعراق والألوان. وبما أنني عربية المنشأ أثناء بحثي بين هذه الإحصائيات، لم أجد تمثيلاً يذكر عن العالم العربي بملايينه، حروبه الأخيرة والأكثر قدماً. تقدمتُ من الشاب الانكليزي الذي يلبس معطفاً بلون الحنطة، وسألته عن كيفية إجراء العد، فأراني الموازيين وأكياس الرز المختومة التي ما تزال مركونة في الجانب. صرحت له عن استغرابي من عدم حضور إحصائيات تخص الملايين العربية في الشرق الأوسط، والاكتفاء بتمثيل وحيد عن ضحايا العراق وتوزيعها السكاني. كان يستمع باهتمام وجدية ويقول: سأسجل ملاحظاتك. فاسترسلت وقلت: ولا يوجد إي إشارة إلى ضحايا حرب تموز في لبنان، ضحايا الحرب بين اسرائيل، فلسطين، لبنان والدول الأخرى؟ بقي الشاب منصتاً فتماديت وقلت: ولا يوجد أي تمثيل للهجرات العربية إلى الأمريكيتين. رحتُ أشرح له شيئا عن إنجازات المهاجرين العرب في كندا أو أمريكا. بقي الشاب منصتاً. ووعد ببحث هذه الملاحظات مع فريق العمل. قال أن العرض قابل للتغيير كل يوم حسب أهيمة الاقتراحات. بعد أن مشيت وألتقطت صوراً كثيرة، سألت عاملاً آخر عن مصير هذا الرز بعد انتهاء العرض؟ قال: سيتم غسله وتغليفه في حقائب للتبرع به لجهات خيرية مختصة بتوزيع الغذاء المجاني على المحتاجين في تورنتو. خرجت وأنا ممتلئة أسئلة ودهشة وفي جيبي حبة رز. أنا حبة رز أنتمي إلى تلك الكومة تمثل عدد سكان تورنتو، جالسة في مقهى على الرصيف أشرب قهوة كندية، أراقب المارة الملونين من كل دول العالم، لاجئين ومقيمين، عاملين وعاطلين عن العمل. الآن أتنفس بعمق وأغوص في ذاتي المحمّلة بأكثر من انفعال وعاطفة وسؤال. أضع حبة الرز على الطاولة أمامي وأفركها كما لو أنها المصباح السحري وأقول "إن وجدت نفسك وحيدة تشربين القهوة على رصيف المقهى الكندي، فأنت لست وحدك"!
www.jackleensalam.com
صحية، عمان، مسقط 28 حزيران 2009
جاكلين سلام: شاعرة وكاتبة سورية –كندية
تعليقات