حوار جاكلين سلام مع الدكتور الشاعر وليد الخشاب
حوار مع الدكتور وليد الخشاب في أعماق التجربة الإبداعية
بين كندا ومصر عبر لغة الشعر والسينما والنقد.
حاورته من كندا، جاكلين حنا سلام *
مايو – يوليو 2021
مقدمة: على هامش اللقاءات الأدبية والثقافية التي كانت
تجري في كندا ألتقيت عدة مرات بالأستاذ الشاعر الدكتور وليد الخشاب في تورنتو-
كندا. تبادلنا الكتب والأفكار فيما يخص الشأن الثقافي العربي والمهجري. كان
انطباعي بأنني أمام شخصية عميقة بمحمولها الانساني والفكري، تجمع تواضع الكبار، اتزان
الحكماء وثقة العارف المقبل على الآخر بروح مشبعة بالتراث والحداثة. تسعفه في ذلك
معرفته باللغات الأخرى التي تعمل التفاعل والحساسية الواعية الطليقة بين العربية
والانكليزية والفرنسية. الحديث معه يفتح باب الأسئلة الأكبر نحو معابر تمس كينونة
الفرد الواعي لدوره الثقافي الحضاري الفردي-وسط الجماعة. وهذا الحوار ليس إلا
تعميقا مختصرا لإنجازاته في مراحل من عمره الابداعي التي تنضح بالثراء الفني
والفكري والنقدي، والمستمر حتى الآن.
قبل الدخول في الحوار أترككم مع نبذة مختصرة عن ضيفي
الأول في سلسلة حوارات تأتيكم من "ركن جاكي للإبداع" في كندا
من هو وليد الخشاب:
الخشاب، أستاذ ومنسق الدراسات
العربية بجامعة يورك، كندا منذ عام 2007، والمدير المشارك لجماعة الدراسات العربية
الكندية.
في عام 2003 حصل على الدكتوراة في
الأدب المقارن من جامعة مونتريال. في 2004 أدار تحرير كتاب: "العرب: الخروج
من الأزمة؟" المنشور في دار كورليه الفرنسية، وأتبعه بما يزيد عن خمسين فصلاً
في كتاب ومقالاً أكاديمياً حول الثقافات العربية والإسلام، لا سيما قضايا الهوية
الثقافية والحداثة؛ والأبعاد السياسية للصوفية؛ والمجازات الصوفية في السينما
والأدب والثقافة الدارجة.
في مجال النقد الأدبي والثقافي،
نشر كتاباً من تأليفه، وأدار تحرير كتابين، بالإضافة إلى عشرات الدراسات النقدية
المنشورة باللغة العربية في العديد من الدوريات الثقافية (مثل "الطريق"
و"القاهرة" و"أخبار الأدب") أو السيارة (مثل
"الأهالي" و"الحياة")، وكذلك الدوريات المحكمة (مثل
"فصول" و"ألف").
كمترجم،
نشر وليد الخشاب العشرات من القصائد والدراسات المترجمة من وإلى الفرنسية.
من دواوينه الشعرية:
الموتى لا يستهلكون، شعر، دار
ميريت للنشر، القاهرة، 2001
التي، شعر، دار شرقيات، القاهرة،
2013
قمر مفاجىء، شعر، دار شرقيات،
القاهرة، 2015
دراسات في تعدي النص، المجلس
الأعلى للثقافة، القاهرة، 1995
بالاضافة الى تحرير بعض الكتب
وترجمات وبحوث منشورة في دوريات فصلية وأدبية باللغة العربية والفرنسية. ويذكر أنه
اشتغل سابقا كمعد ومقدم برامج بالفرنسية عبر اذاعة فرنسية من مصر.
الحوار جرى عبر الشبكة الالكترونية، يوليو 2021
جاكلين سلام: لقد قمت بخطوة رائدة بتأسيس برنامج خاص
بالدراسات العربية في جامعات كندية، من أين بدأت الفكرة وكيف كان استعداد الجانب
الكندي لدعم هذا الحقل؟
وليد الخشاب: يحمل تراثنا تلك العبارة القرآنية الشهيرة:
يخرج الحي من الميت، وربما فهمناها بمعنى الفرح الذي يتولد عن الحزن. فإنشاء برامج
لدراسة الثقافات العربية شيء يفرحني وإن كان الدافع وراء ذلك الإنشاء محزناً في
أصله. تواكب القرار السياسي بالتوسع في إنشاء برامج للثقافة العربية بكندا مع مطلع
القرن، لكنه للحق -وللأسف- كان جزءًا من حزمة من الإجراءات التي اتخذتها حكومات
الولايات المتحدة وكندا الفيدرالية والمحلية للتعامل مع هجمات الحادي عشر من
سبتمبر-أيلول 2011 على أمريكا. شعر المجتمع وكثير من الساسة أنهم لا يفهمون العالم
العربي الذي جاء منه معظم منفذي تلك الهجمات، فقرروا ضمن ما قرروا أن يخلقوا بنى
تعليمية تدرس العالم العربي. واستجاب القرار لرغبة منتشرة في المجتمع الكندي لفهم
العالم العربي الذي استشرى الحديث عنه في وسائل الإعلام بصورة نمطية يرفضها معظم
المتعلمين والمثقفين بكندا. ولعل ذلك هو الجانب المشرق الوحيد الناجم عن هجمات
سبتمبر-أيلول البربرية على رموز السلطة والتفوق الأمريكيين.
هكذا ظهر العديد من تلك الأقسام للدراسات العربية، وخُلِقت
عدةُ وظائف لأساتذة ومعلمي الثقافات العربية في اللحظة التي انتهيتُ فيها من
مناقشة أطروحتي للدكتوراة في مطلع القرن. أي أنني خرجت إلى سوق العمل في لحظة
تاريخية مواتية وصرت من أوائل المعينين في تلك الوظائف بكندا. هكذا
أنشأتُ قسمَ الدراسات العربية بجامعة كونكورديا بمونتريال ثم توليت مسئولية برنامج
شبيه بجامعة يورك بتورنتو. في الحالين بدأنا بعدد من الطلاب أحيانا لا يتجاوز
العشرة، والآن بعد ما يزيد على خمسة عشر عاماً يضم البرنامجان المئات من الطلاب.
جاكلين سلام: هل لاقت دراسة الثقافة العربية والاسلامية
رواجا بين الطلبة الكنديين؟ هل الطلبة من أصول عربية ومسلمة، أم خليط من كل الأعراق.
هل لك أن تحدثنا عن هذه التجربة كي نضع القارئ العربي على تماس مع مجريات الحدث.
وليد الخشاب: الحق أن تركيبة الطلبة الثقافية والعرقية
في برامج اللغة العربية تختلف من مدينة لأخرى ومن مقاطعة لأخرى في كندا. أنشأتُ
البرنامج العربي بجامعة كونكورديا بمونتريال، فكان نصف الطلاب من أصول عربية
ونصفهم من أصول أوروبية بيضاء، سواء كانوا فرانكوفون أو ناطقين بالإنجليزية. والحال
كذلك في قسم الدراسات العربية بجامعة أوتاوا، وهو أقدم قسم من نوعه في كندا. تعكس
هذه التركيبة الطلابية سياسات الاندماج والتفاعل الثقافي لا سيما في مقاطعة كيبيك،
التي تحث الكثير من الكنديين على دراسة اللغة والثقافات العربية، حتى وإن لم تكن
أسرهم من أصول عربية، لأن الكل يشعر أن الشأن العربي شأن عام في المجتمع الكندي
بسبب وضع العرب في الخطاب الإعلامي الدولي. في المقابل، في جامعة يورك بمدينة
تورنتو في مقاطعة أونتاريو، فمعظم طلابي من أصول عربية أو من أصول مسلمة وقليل
منهم من أصول أوروبية، لأن تورنتو غارقة في سياسة التعددية الثقافية القصوى، التي
تخلق جزراً منعزلة لكل جالية ثقافية/عرقية. فتشعر كل جالية أن "واجبها"
الثقافي يقتصر على ثقافة الجالية. والحال نفسه في أقسام ثقافات عديدة بجامعات
تورنتو، وليس مقصوراً على أقسام العربية بجامعة يورك. فمعظم دارسي الثقافة الهندية
بجامعة يورك من أصول هندية، ومعظم دارسي الثقافة الكورية من أصول كورية، وهكذا.
ماذا يدفع الطلاب الكنديين لدراسة اللغة والثقافات
العربية؟ تتعدد العوامل: الرغبة في الحصول على فرص عمل في الخليج (بالنسبة لكثير
من الدارسين سواء كانت جذورهم أوروبية أو عربية)؛ رغبة أبناء المهاجرين العرب في
التواصل مع ثقافات الوالدين؛ رغبة الطلبة المسلمين من إيرانيين وأفغان وباكستانيين
وهنود مسلمين، إلخ. في تحسين لغتهم العربية لقراءة القرآن والنصوص المؤسسة للإسلام
في لغتها الأصلية. وهناك سبب قد يبدو مزحة لكنه يمثل عاملاً حقيقيا في بعض
الأحوال: وهو الرغبة في تعلم ثقافة الأصهار، التي تشعر بها الشابات من أصول
أوروبية المرتبطات بشباب عرب. لا أنسى طالبة لي كانت تتعلم العربية رغبة في إبداء
حسن النية تجاه حماتها العراقية.
جاكلين سلام: حصلت على شهادة الدكتوراة في الأدب المقارن
من جامعة كندية، كيف توزع طاقاتك الابداعية في المجالات العديدة التي تشتغل فيها.
فأنت من جهة شاعر ولك اصدارات، وأيضا مدرس جامعي، وناقد في الحقل الاجتماعي
والثقافي؟ هل تراك تخلص لجانب دون آخر؟
زليد الخشاب: كثيراً ما أزعم -كما يقول الفرنسيون- أن لي
قبعتين، واحدة أرتديها فأكتب الشعر، وواحدة أرتديها فأمارس التدريس وأكتب النقد
الأدبي والسينمائي والثقافي. وربما أكتب الشعر أحيانا وأنا
أنقد نفسي بعين الأكاديمي، وأتمنى أن أبدع في البحث العلمي وأخرج عن المألوف أكاديمياً
مثلما يليق بالشعراء أن يتوخوا دائماً إثارة الدهشة ومفاجأة السامع والقارئ. وعادة
ما أقول إنني لست شاعراً وإنما أكتب الشعر، لأن التصور الشائع عن الشعراء منذ
مرحلة ما بعد الاستقلال في منتصف القرن الماضي هو أنهم قوم متمردون مجانين صعاليك.
أنا أتمرد على المنظومات السائدة اجتماعياً وأخلاقياً وسياسياً، لكني لا أشعر
بالحاجة إلى ممارسة تمردي في جسدي فأسرف في الشراب أو أتعاطى مخدرات عدا الشاي
والقهوة. أسعى إلى أن أمارس التمرد في اللغة وفي الصور والأفكار وهذه مشاركتي
الجسدية في التمرد: مشاركة بالكتابة، التي هي فعل جسدي وليست
فقط فعلاً ذهنياً أو نفسياً. لكني في المقابل لا أمارس البحث العلمي والتدريس
بمنطق محافظ، بل أدعم كافة المشروعات والتوجهات المقاومة للسائد وأحاول أن أستكشف
موضوعات ومقاربات خارجة عن المألوف أو ناقدة وناقضة للأعراف المتوارثة. فمثلاً
أحاول تمثل تأملات المتصوفة ومفاهيمهم في التعامل مع السينما والسياسة وهما مبحثان
لم يتطرق إليهما المتصوفة (بتاتاً فيما يخص السينما وإلا نادراً فيما يخص
السياسة). ربما صار التصوف "موضة" اليوم، لكن لم يكن الحال كذلك في
الأكاديميا الغربية بالذات يوم نشرت عام 2000 مقالي عن السينما الصوفية. أشرف على
طلبة يسلكون الطريق نفسه، أو يدرسون أحوال الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وهو مجال
لا يتطرق إليه إلا الطلبة المغامرون نظراً لتسيد وجهة نظر في المجتمع الكندي لا
تتعاطف مع الحقوق الفلسطينية، رغم وجود أصوات منصفة واعية تفهم وتدعم الحقوق
الفلسطينية المشروعة.
جاكلين سلام: في المهجر تتنازع الهويات وتتصارع وتحاول
أن تتحقق، ما هو مأزق الهوية العربية في المكان الجديد، وعلى ضوء تجربتك الميدانية
في كندا والعالم العربي؟ اعرف ان الموضوع
معقد ولكنه جزء من صلب رسالتك التعليمية وكتاباتك ايضا
وليد الخشاب: أركز في تدريسي على فكرة تعدد الثقافات
العربية، ولذلك أسمي مادتي: "مدخل إلى الثقافات العربية" بصيغة الجمع.
وبحكم أن كندا بلد مهجر فخلفيات الطلاب العرب شديدة التنوع من حيث اللهجة واللغة
الأم والعرق والدين والمشرب السياسي، ربما أكثر من بعض المجتمعات في العالم العربي
نفسه. والحقيقة أنني أحتفي بالعروبة الثقافية وهي ما يجمع بين الناطقين بالعربية
والمتعلقين بها وجدانيا وثقافيا وتاريخيا، تجنباً لمأزق قد يدفعنا إليه التركيز
على خطاب القومية العربية التي قد يرى البعض بأنها تقصيه من المتن، لو كان يشعر -على
سبيل المثال- أن فكرة القومية العربية قد استغلتها أنظمة قمعية، أو أن دعم العربية
ينتقص من دعم لغته الأم الكردية أو الأمازيغية مثلاً، أو أن القومية العربية فكرة
عرقية تعني تفوقاً لعرق عربي متخيل على أعراق سمراء البشرة. لذلك أركز على العروبة
الثقافية وتعدد مفاهيم العروبة ولا واحدية الفكرة، بمعنى أن العروبة لا تقصي
الهويات الأخرى الأفريقية أو المسلمة أو المسيحية أو الكردية أو الكلدانية أو
الأمازيغية، إلخ. لأن هوية الفرد وذاتيته مركبتان بالضرورة ومتغيرتان في كل ساعة
باليوم. ففي الصباح قد يتصرف أو يشعر المرء بوصفه مسلماً قبل كل شيء، عندما يصلي
مثلاً، ثم يأكل فيكون أمازيغياً قبل كل شيء، ثم ينصت لأم كلثوم فيصير عربياً قبل
كل شيء. ولعل الأصوب أن أتحدث عن العروبات أو الهويات العربية، وإن كنت أتجنب
استخدام مفهوم الهوية وأفضل عليه مفهوم "الذات" أو "الذاتية"
لاحتفائهما بالفرد، بينما تنزع فكرة الهوية إلى التعميم والتجييش، ومنذ الحرب
اللبنانية 1975 -1990، لم نستطع أن نخلص لاوعينا من ارتباط الهوية بالقتل، منذ ظهر
مفهوم القتل على الهوية. أزعم أن الحديث عن العروبات بهذا الانفتاح والتركيز على
الممارسات الثقافية مثل لغة الحكي، الإنصات للأغاني، الأكل، مشاهدة الأفلام
والدراما التلفزيونية كتجليات لممارسة العروبة الثقافية، هذا هو
ما يجعل دروسي مجالاً لتنوع خلفيات طلابي الثقافية والعرقية والدينية من كافة
أرجاء العالم الناطق بالعربية، وهو ما يشعر الطلاب من غير ذوي الأصول العربية
بوجود مساحة مفتوحة للحرية والتنوع. العروبة لم تعد قطرية أو وحدوية. في عالمنا
المعولم، العروبة هي مجموعة من أشكال الوجود في العالم ككل.
جاكلين سلام: لك دراسات في حقل السينما والمقدس، هل
استطاع برأيك الفنان والكاتب العربي أن يرفع من سقف حرية التعبير والتفكير حيال
" المقدس" الذي يصل بالمبدع أحيانا إلى نقطة ميتة. هل استطاع الجيل
الجديد التحرر بذكاء من ثقل التابوهات ورقابة المؤسسات العربية السلطوية؟
وليد الخشاب: أميز بين "المقدس" وبين
"الدين". فالمقدس أكثر شمولاً ويعني علاقة بين الفرد أو الجماعة من
ناحية وهيئة أكبر من حدود البشر، أو كائن أعظم، قد يكون متعيناً في تصورات الأديان
الإبراهيمية عن الله أو متجلياً في الطبيعة، أو حتى متجسداً في التصورات عن تراب
الوطن المقدس، أو متجاوزاً كل هيئة وكل تصور ملموس. أما الدين فمرتبط بمجموعة
شرائع وشعائر وبمؤسسات رسمية أو بسلطات خارج إطار الدولة لكن تتمتع بسطوة معنوية.
دائرة المقدس هي مجال التصوف والممارسات الروحية خارج الأديان الإبراهيمية وعلى
هامشها. أما دائرة الدين فهي مجال الشرائع والنواهي والحلال والحرام في جميع مناحي
الحياة بالنسبة لليهودية والإسلام، وفي المنحى الأخلاقي بالنسبة للطوائف المسيحية
المختلفة.
منذ السبعينات
والمثقفون العرب مشغولون بسطوة الدين على المجتمع، لأن الكثير من الأنظمة المحافظة
بالمنطقة قد استخدمت جماعات اليمين المتطرف كوسيلة لضبط المجتمع وقمع التيارات
الليبرالية واليسارية في المعارضة. واليوم، وبعد مرور نصف قرن على هذه السياسات
المستشرية في كثير من البلاد العربية بدرجات مختلفة، صار الدين أو نقده هاجساً ليس
فقط لدى المثقفين أو حتى المتعلمين عموماً، بل صار الدين هاجساً لدى معظم أفراد
المجتمع. هذا الهاجس قد يتمثل في الانصياع للخطابات عالية الصوت الداعية للخضوع
سواء لمنظومة نواهٍ ومحرمات اجتماعية أو للمقابل السياسي لتلك المنظومة، أي
الانصياع لحزمة خطابات السلطة والنهي عن معارضتها. وقد يتجلى هاجس الدين في الحرص
على نقده أو التمرد عليه. والسر في ذلك هو إدراك الناس لاسيما الشباب الذي تفتح
وعيه بعد الربيع العربي أن الدين كخطاب وكمؤسسات يستخدم للسيطرة السياسية
والمجتمعية، فيمثل نقدهم للدين أو تمردهم عليه نقضاً لأساس معرفي وبلاغي من أسس
السلطة.
لهذا، بعد أن احتل الفضاء العام
والافتراضي الملايين من السلفيين، جاءت ردة الفعل بعد الربيع العربي وتحرر الكلمة
النسبي والمؤقت على الفضاء الافتراضي الأزرق، فظهرت الآلاف من حسابات فيس بوك ومن
حلقات كلوب هاوس يعبر فيها الملحدون أو اللاأدريون أو العلمانيون ومن يسمون أنفسهم
اللادينيين -في ترجمة صوابية لكن خاطئة لمصطلح "ملحد" الإنجليزي
والفرنسي (فالأصوب أن يترجموا المصطلح ب اللا إلهيين)- وكثير منهم إما يسخر من
المعتقدات الشائعة أو الشرائع المتعارف عليها، أو ينقدها بجدية.
لأن هذا الفضاء الطوباوي جديد نسبياً فلم يتعرض للتدجين
الكامل بعد، على نحو ما تعرضت له فضاءات الصحافة الورقية والإذاعة والتلفزيون،
وبالتالي به مساحة ما يُسمَح بها للشباب كي يمارس تمرداً لفظياً على
"ثوابت" الدين. أما في فضاءات الأدب التقليدية وخارج منصات التواصل
الاجتماعي، في الكتب والصحافة الأدبية، ورقية أو إلكترونية، فمازال الدين من
التابوهات التي لا يستطيع الكاتب أو الشاعر أن يقترب منها إلا في حدود. فالدين إلى
اليوم من مقومات "الأمن القومي" لمختلف الأنظمة العربية. ولن يصير
التعامل معه "هادئاً" سواء من قبل المتدينين أو الملحدين أو أجهزة
الدولة، من مواطنين متعلمين أو من كتاب مبدعين أو من مسئولين إداريين وسياسيين،
إلا عندما يصبح الدين مجال ممارسة روحية وأخلاقية، لا اختصاصاً من اختصاصات الشرطة
والقضاء.
جاكلين سلام: هل يستطيع الإنسان في العالم المعاصر السريع
الايقاع والاستهلاك، الانغماس في الروحانيات والصوفية؟ هل هناك تلقي إيجابي لهذا
النوع من الابداع سينمائيا وفكريا. أذكر أن لك دراسات في هذا الحقل ايضا.
وليد الخشاب: الصوفية لها وجهان في عالمنا المعاصر، منذ
نهايات القرن العشرين. الأول هو انخراطها في سياق الثورة الثقافية في الغرب منذ
ستينات القرن العشرين، حيث كانت الصوفية العربية الإسلامية -مع الثقافات الهندية
والأفريقية- واحداً من روافد الانفتاح على الآخر الثقافي بالنسبة للشباب الغربي
الثائر على المركزية الأوروبية التي أغرقت القرن العشرين في فظائع الاستعمار
وأهوال الحربين العالميتين ثم حرب فييتنام. والجانب الثاني هو إعادة اكتشاف تلك
الصوفية في العالم العربي نفسه كبديل للتطرف الديني من ناحية، وللإغراق في التحديث
على النموذج الغربي من ناحية أخرى.
إذاً على نحو ما، فالتصوف هو رد فعل لإيقاع الرأسمالية
اللاهث وإعلائها للاستهلاك كقيمة أخلاقية ونموذج يحكم كل شيء في المجتمع، من
المعرفة إلى التسلية وحتى إلى البحث عن السعادة. التصوف شكل من أشكال المقاومة
السلمية الفردية لتغول الدولة على حياتنا في القرن الحادي والعشرين ولقولبة السلوك
والأفكار والرغبات بفعل العولمة التنميطية التي تعمل عملَ التوحيد القياسي.
والتصوف بفضل مقاومته للتنميط يمثل ملاذاً لمن يحاولون ممارسة المتعة الروحية دون
الانخراط في تصورات اليمين المتطرف المتعصب عن الروحانيات.
التصوف كما أفهمه ممارسة مادية تشبع الروح، فهو ليس
بالضبط "الدروشة" أو "التقشف"، وإنما موقف من العالم ينفتح
فيه الجسد روحياً على الحياة وعلى الآخرين وعلى الآخر الأعظم، سواء أسميناه الإله
أو الخالق أو النور أو الطبيعة أو البركة. والتصوف بمعناه الإيجابي المتمرد هو
ممارسة ضمن نماذج متعددة للتعايش مع أو لمقاومة الاغتراب الذي تنتجه أنظمة الحياة
الرأسمالية الطاحنة. فالرأسمالية تكمش ذات الإنسان لتحولها إلى مجرد مُنْتِج للسلع
ومستهلك لها، بلا حياة ولا استمتاع ولا سكينة إلا من حيث تحول الإنسان إلى محض يد
تعمل وفم يستهلك. التصوف إحدى السبل لاستعادة ذات إنسانية أكثر شمولاً: بدناً
كاملاً لا مجرد يد يلتصق بها فم، بدناً يستمتع ويعيش ويمارس حياة متعددة الأوجه:
أخلاقية وسياسية وروحية.
لكن الرأسمالية وحش يلتهم كل شيء ويهضمه ويخرجه
سلعة معروضة في السوق المعولم. فحتى الصوفية التي استعيدت كفعل مقاوم للرأسمالية
خارج التنظيمات الحزبية أو النضالية وخارج الممارسة السياسية المؤسسية، فقد تمكنت
الرأسمالية من تعليبها وتسليعها وتسويقها. اليوم صارت طاقة جلال الدين الرومي
الثورية جماليا أخلاقيا وروحيا "ماركة" لبيع صور وتماثيل لدراويش
غرائبيين يرقصون رقصاً فولكلورياً، ومصدراً لاستشهادات تصاحب منشورات فيس بوك
وإنستاجرام تغذي ثقافة النيو إيج التي تبيع اللذة الروحية مثلما تباع الحلوى
والبيتزا والملابس الداخلية المثيرة.
للموسيقى والأفلام والكتابات الصوفية مكان كبير في عالم اليوم.
فقط علينا أن نميز بين المنتجات الصوفية المصنعة للاستهلاك السريع، والممارسات
المتصوفة المقاومة لآلة الرأسمالية.
جاكلين سلام: أين تعثر على قصائدك، وهل تكتب الشعر بلغة
أخرى غير العربية، أم أن اللغة الأم هي مهد الروح الشاعرة؟
وليد الخشاب: كتبتُ الشعرَ بالفرنسية وبالعامية المصرية في
العشرينات من العمر، ثم عدتُ في مطلع ثلاثيناتي إلى اللغة التي كتبت بها حوالي عشر
قصائد في سن السادسة عشر، أي اللغة الفصحى، وهي قصائد تشبه شعر صلاح عبد الصبور،
لكن مكتوبة بتهتهة مراهق عربي في ثمانينات القرن العشرين. منذ عاودت الكتابة بالفصحى
ونشرتُ ديواني الأول "الموتى لا يستهلكون" في مطلع القرن، أميل إلى
استخدام لغة بسيطة أقرب ما تكون إلى المحكية، مع التزامها قواعد اللغة السليمة،
عندما أكتب قصيدة تفاصيل يومية. أما إذا كنت أشاكس التراث، فأتعمد اختيار معجم
وتراكيب قديمة لأن الهدف هنا هو معارضة التراث، ليس بالمعنى القديم للمحاكاة، بل
بمعنى معارضة قوية فيها تحية وسخرية معاً. فأكتب مثلاً عن أعمدة النور (أي أعمدة
الإنارة) والمباول والتلفزيون والآيس كريم، كما أكتب عن ليلى التي ترفل في الدمقس
راكبة هودجاً. سبق وأن قلتُ إنني أضعُ على رأسي قبعتين، وربما جاز لي أن أزعم أن
لي لسانين: واحد أقرب إلى المحكية المصرية وواحد يحاكي منطوقات العرب الأقدمين.
أظن هذا المجاز أدق تعبيراً من تصور
أن لي قدماً في ماضي جزيرة العرب وبادية الشام وقدماً في حاضر القاهرة أو تورنتو.
العالم أصبح وحدة جغرافية/سياسية واحدة وكذلك الزمن: نعيش منذ نهاية القرن الماضي
في دائرة بالحاضر فائق الحضور، لكنها تمتد من القرن السابع إلى القرن السابع
والعشرين. حاضرنا ليس اليوم وحده، وإنما عشرون قرناً مرةً واحدة تمتد من الماضي
إلى المستقبل. لهذا فعندما أناجي حبيبتي قائلاً "شعرك المهند/ تكسرت على
نصاله نصالي" أنا أستحضر المتنبي من القرن العاشر، لكن بوصفه جزءًا من حاضري
أنا.
أعثر على قصائدي على قارعة
الطريق وفي الباص وفي المترو، وفي كل ما هو يومي. مررت يوماً بمطعم الحي البرتغالي
فكتبت عن النادلة وهي تمسح الملاط، تغزلت في بنات كن في المترو بنفس عربتي، أشاهد
التلفزيون فتحضرني صوره في شكل قصائد. وأكتب القسم الأكبر من قصائدي خارج مصر،
لاسيما في كندا، حتى القصائد شديدة القاهرية، لأن مدن كندا دائماً ما توجد فيها
أحياء تشبه نظائر لها في القاهرة. العالم ليست فقط قرية واحدة كما قال المفكر
مكلوهان. العالم مدينة واحدة. لكن تظل عينا حبيبتي أجمل قصائدي. وصفتهما في عشرات
القصائد ولم أستوف ذلك الغرض بعد.
جاكلين سلام: في هذه الاطلالة
المكثفة الموجزة ندرك أننا أمام فكر متنور يريد أن يضيئ الطريق للغد، من خلال
مجهود مكثف طويل من الدراسة والقراءة والتجربة الميدانية في بوتقة الشرق في مصر،
والانغماس في الحضور الأكاديمي الفعال بين القسم الفرنسي- والانكليزي من كندا وبين
مدنها وجامعاتها المرموقة.
وبين هذه العوالم الجادة
والجميلة أريد أن أعود الى قراءة قصائد صديقي الشاعر و"عينا حبيبته" التي
هي أجمل قصائده كما يشير. وسيكون لي عودة لقراءة دواوينه التي تعكس شغفه
بالاسقاطات التراثية إلى جانب كسر النسق والخوض في حداثة عبر المفردة والشغب
الشعري والجمالي.
جاكلين سلام، شاعرة وكاتبة
ومترجمة سورية كندية.
July 24,
2021
تعليقات