مسابقة أمير الشعراء وانحراف النقد العربي نحو العدوانية والعنف. مقال جاكلين سلام في مجلة نقد 21
لماذا ينجرف النقد العربي نحو العنف معنوياً وفكرياً؟
لماذا تُنفى قصيدة النثر العربية من المهرجانات والجوائز؟
لماذا تُنفى قصيدة النثر من الجوائز الشعرية المرموقة، وتُحرم من المُشاركة في المهرجانات الشعرية، سواء برنامج “أمير الشعراء”، أو حلقات أخرى؟ ولن أعود إلى سجالات جديدة بخصوص قصيدة النثر وشعريتها مُقارنة بقصيدة التفعيلة والعمود!
أستغرب لماذا يستمر ذلك سنة بعد أخرى من دون إجراء تغيير في انتقاء أسلوب الكتابة والتفاعل مع النصوص. لا أحد ينكر أن قصيدة النثر العربية هي الرائجة والمُتحققة بجمالياتها الشرسة، وهناك أسماء وأعلام كثر لهم مُنتج مُميز في هذا المضمار، لا مجال لذكرهم الآن. لقد تحققت القصيدة ونجحت على أيدي الشاعرة نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، ومن ثم الماغوط وأدونيس في مرحلة لاحقة وطويلة وهم يكتبون في هذا النسق الأدبي الإبداعي الذي لا يمكن طرده بعد من الساحة الثقافية والبيت العربي.
أعود إلى نقطة لا تخفى على المُتابع للحداثة والتجديد ومن هو في مقام رواد المُؤسسة العربية الإمارتية التي تُخصص وتنفي وتكرس، ومنهم من هو في مقام الدكتور علي بن تميم وآخرين، لماذا لا يكون لهم دور في اقتراح دخول قصيدة النثر إلى ميادين التكريم عربيا سواء في هذا البرنامج أو غيره!
نُشر ديواني الأول تحت إشراف الدكتور علي بن تميم في شبكة المرايا الثقافية. أذكر أنني شخصيا حينما بدأت النشر من كندا، كان الناقد الإماراتي الدكتور علي بن تميم يدير موقعا إليكترونيا “المرايا الثقافية”، وكان الموقع رائدا في نشر دواوين قصيدة النثر بالإضافة إلى القصص والدراسات المنشورة والغير منشورة من قبل “قبل الطبع”. وهو من أجاز أول ديوان شعري لي بعنوان “خريف يذرف أوراق التوت” قبل الطبع ورقياً في تلك الشبكة عام 2001م. ما زلت أحتفظ بصورة الغلاف كما نُشر في الموقع. وأعدت طباعته ورقيا وتوزيعه إليكترونيا فيما بعد. تلك الانطلاقة أعطتني جواز سفر للخوض بعد ذلك في أبواب الثقافة العربية والإنجليزية والكندية. ونأمل في مرحلة قريبة أن يتم النظر إلى أهمية قصيدة النثر والكتب المنشورة إليكترونيا بنفس الحفاوة التي يحظى بها الكتاب الورقي، سواء الشعري أو الروائي إذا ما وضعنا في الاعتبار تلك العلاقة المُعتلة بين الناشر العربي والكاتب التي لا تخفى على أحد.
أمير الشعراء والنقد والعدوانية:
كان هناك قدر من العدوانية والعنف اللذين يصلا إلى درجة العدوانية والقدح والذم معنوياً وفكريا، والرغبة في التصفية المعنوية للآخر بحجة الغيرة على اللغة العربية المُقدسة في نظر البعض.
ماذا يفعل الأمير الفائز شعريا عدا أنه يتسلم في الختام مُكافأة مادية، ويصبح موضع اهتمام الإعلام والصحافة لفترة وجيزة؟ هل هناك برنامج ثقافي يكلف به في مُحيطه المحلي أو العربي من أجل نقل خبراته لمن يرغب في اكتشاف أسرار النجاح في كتابة الشعر والرواية؟
الجواب: لا، لم يكن هناك أي دور يذكر للشاعر الذي حمل اللقب من قبل سوى أن الفائز تُفتح له أبواب الشهرة منابر شخصية وبعض المال ومُبارك له “لها”.
من خلال تجربتي هنا في كندا أقول: إن الوضع يختلف، والشاعر مُحرض لحضور الشعر في الساحات والمقاهي والمراكز الثقافية. مرة شاركت في قراءة شعرية مع كبير شعراء تورنتو “بيير جورجيو دي سيكو” في مارثون الشعر بلغات العالم، قراءات شعرية استمرت من 12 الساعة ظهرا وحتى 12 مُنتصف الليل، في مُنتصف العقد الأول من القرن 21. شارك فيه عدد كبير من الشعراء وبلغات مُختلفة. كان كبير الشعراء كريماً ومتواضعاً، إذ حضر وقرأ مع عشرات من الشعراء الملونين من كل الأعراق في نفس الساحة وسط داون تاون تورنتو “دنداس سكوير” أكثر المناطق ازدحاما. لماذا؟
ليكون المهرجان فرصة لعودة الشعر الى الشارع من جهة، وفرصة لشعراء المنفى أو اللاجئين والمُهاجرين ليسمعوا أصواتهم بلغتهم الأولى وباللغة الانجليزية هذا من جهة، ومن جهة أخرى، هذا الاحتفاء بالشعر من مهام كبير الشعراء المُنتخب، المُكلف بأنشطة كثيرة على مدار سنوات تعيينه في هذا المنصب بمُقابل مادي.
كبير الشعراء يقرأ معنا القصائد في البار والمقهى الكندي، وفي مُناسبة أخرى في مدينة تورنتو الكندية التي تحتضن كتابا من كل الأعراق والمقامات، كان لي شرف القراءة والمُشاركة في أمسية مُخصصة لتكريم أحد شعراء كندا الكبار، وهو “أ. ف. مورتيز” الكندي الإيطالي الأصل. قرأت قصيدة لي في أمسية على شرفه بالعربية والإنجليزية، وقرأت قصيدة له ترجمتها من شعره إلى العربية. وكان سعيدا بالاستماع إلى الإيقاع العربي في الإلقاء الشعري، وهذا ما قاله حينما طلبت منه أن يضع توقيعه على ديوان أشعاره المُختارة التي صدرت عام 2018م. الشاعر حضر الأمسية في مطعم وبار متواضع في داون تاون تورنتو، وأنصت إلى قراءات الآخرين بلا عجرفة وتكبر رغم مقامه الأدبي التشريفي الكبير كشاعر وأستاذ أكاديمي يدرّس في الجامعة.
الكاتب الزائر في الجامعات الكندية والأمريكية:
في الجامعات الكندية هناك وظيفة تُعطى لـكاتب أو شاعر زائر يتم تعيينه كي يقيم ويعمل على ملاك الجامعة لفترة مُحددة، وخلال تلك الفترة يكون مُشرفا على مُحاضرات ولقاءات مع الطلبة، وورشات عمل لتحسين الكتابة وما إليه من خبرات ينقلها ككاتب ذي تجربة. وتُخصص له عوائد مادية ووقتا ليكمل أبحاثه وكتاباته. وهذه ظاهرة لا توجد حسب معرفتي في الحيز العربي. هذه الفرص من المُمكن إتاحتها لذوي الخبرة والمواهب من دون أن يكون لديهم درجة التحصيل الأكاديمي العالي.
السؤال: هل يستطيع الشاعر الفائز بجائزة، أو كاتب الرواية على القيام بمثل هذا الدور عربيا؟
أشك في ذلك لأسباب كثيرة قد نعود إليها في مقال مُنفصل. خبرة المعرفة النقدية تظهر في نصوص الكتاب.
العنف والترهيب الفكري لغويا:
الألفاظ والنعوت الضحلة التي قرأتها اليوم في الشبكة بخصوص ضعف الناقدة المصرية يدل على ضحالة القيمة المعنوية وتفشي الترهيب الفكري بين صفوف القراء والكتاب العرب.
كيف يحدث العنف والترهيب المعنوي؟
يحدث بكثرة محاولات التنمر للنيل من مقام النقاد إن أخطأوا، و انتهاك سُمعة ومكانة وأهلية شخص للقيام بالدور لمُجرد ارتكاب غلط شنيع كإعراب جملة، يدل على فقر أدوات ووسائل النقد الاجتماعي الثقافي العام. بعضهم كتب نقدا من دون إهانات، وبعضهم تمادى في تهويل الموضوع.
من خلال السوشيال ميديا، وقراءاتي في الفيسبوك أصابتني الدهشة. وكان في كتاباتهم عنف جندري وجنساني غير لائق أحيانا. لاحظت مثلا، انتقاد تقصير الدكتور علي بن تميم، والدكتور أحمد حجو كناقد أدبي، أما المرأة الناقدة فذهب بعضهم لانتهاك الخصوصية الشخصية، وأترفع على ذكر الأمثلة التي تدل على الغيرة الشخصية، أكثر مما تحتمل الغيرة على اللغة، وبعضها كان مرده الانتقام وعدم امتلاك المقدرة على النقد وبشكل أخلاقي راقٍ. وإذا ما عدنا الى المُقدمة ومقولة أينشتاين سنجد لكل منا خياراته في المُسامحة، أو الانتقام المعنوي في مثل هذه الحالة، أو التغاضي عن اللغط لأن هناك قضايا مُهمة كثيرة عدا هذا.
“الضعفاء ينتقمون، الأقوياء يسامحون، الأذكياء يتجاهلون” ترجمت ما قاله العالم ألبرت أينشتاين الذي سلط الضوء على سلوك الفرد والجماعة.
لا يغيب عن أحد أن هناك ضعف عام في مسألة ضبط اللغة العربية وقواعدها بشكل سليم أثناء الإلقاء أو الحكي. ولهذا السبب هناك مُدقق لغوي لدى بعض دور النشر، والصحف والمجلات العربية والعالمية.
تناقلت ألسنة أن الشاعر محمود درويش كان يكلف أحدهم بتنقيح مُراسلاته وقصائده قبل تسجيلها في منبر أو قراءتها في مهرجان. ودور النشر الإنجليزية تعين أفرادا أكفاء لتحرير النصوص وضبطها لغويا قبل إجازة نشرها.
قدسية الإنسان ومقامه أسمى من قدسية اللغة ومُفرداتها، بنظري، الإنسان أكثر قدسية من اللغة. إنسانية الإنسان أسمى من القواعد، ولا مخافة على اللغة العربية إذ تجيدها الملايين العاشقة التي تتغنى بمآثرها وجمالياتها. أمهاتنا وآباؤنا كانوا في الغالب أميين، ولم تنقرض اللغة العربية ولن تنقرض.
السؤال الذي يجب أن يُطرح في نهاية المطاف هو: لماذا انحدرت مقدراتنا في اللغة العربية إلى هذا الحد، ولماذا يكون نقدنا للأغلاط عنيفاً لاذعاً أكثر مما يجب؟
كيف يمكننا أن نرتقي ونبني علوما ومراكز ثقافية تعني بتحسين مهارات الفرد لغويا وإبداعيا، وتكرس دورا ثقافيا وتثقيفيا يكون على عاتق من يحمل جائزة وتكريما تثمينا لجهده الإبداعي.
مسابقة أمير الشعراء ومهرجاناتها نأمل أن تتطور في آلية اختياراتها واعتبار قصيدة النثر ليست هجينة وضالة وثقيلة على المُتلقي. وأيضا تفضيلها الشعر العمودي وشعر التفعيلة على شعر آخر يُكتب بالعربية كقصيدة النثر، والنص المفتوح، والشذرة الشعرية التي هي قمة الكثافة والإيجار والمجاز الشعري.
نشر في مجلة نقد 21 -العدد 15، شهر كانون الثاني 2023
تعليقات