الناقد السوري عزت عمر يكتب عن نص " المحبرة أنثى والكلام ناقص"و




قراءة نقدية في نص (المحبرة أنثى والكلام ناقص)

أرسلت في الثلاثاء 29 ديسمبر 2009

عزت عمر*


الشاعرة السورية جاكلين سلام تستقصي جنون هذا الزمن



في ما يزيد عن تسع الصفحات كتبت جاكلين سلام نصّاً بالغ الدلالة أسمته "المحبرة أنثى والكلام ناقص"، حاولت من خلاله الإمساك بزمنين أحدهما شعري يتأسّس على اللحظة والمفردة والصورة، وثانيهما سردي ينهض على حكاية تبتدئ بالأنوثة التي تحتوي العالم، وتنتهي إليها أيضاً، وما بين لحظة البداية والنهاية سترصد لنا عالماً بهياً مليئاً بالخيال وبكثير من التفاصيل التي نعيشها في حياتنا اليومية، ولكن ذلك الرصد لن يتم على حساب الشعرية، وإنما سيدفع بهذه الشعرية لأن تتجاوز لغة الشعر القائمة على التكثيف والرمز والغموض، نحو ملاعب جديدة ومبتكرة، تسعى قصيدة النثر بكلّ جرأة لتدشينها خلاصاً من مراوحة في المكان دامت طويلاً.

 

1 ـ المغزى الدلالي للنصّ.

 


" من أيقظني هذا الصباح؟!

حمامة رمادية جدا، وباكرا جدا

هل هي الحمامة ذاتها التي تشاكس على نافذتي باكرا كل صباح وعندما توقظني، تغيب بلا أثر؟

الشرفة الآن ملعب لهواجس العالم. ربما ليس لكل هذا قيمة، لأنني هي /أنا، ذاتها. فقط التقويم السنوي ماتت بين أوراقه صفحة البارحة، البارحة شمعة حزينة مطفأة، هكذا قال "كافافي" وانطفأ لا أدري متى"؟



1.1 بين زمنين

تسعى جاكلين سلام في هذا النصّ المركّب الطويل للتعامل مع زمن بدأ للتوّ مع لحظة الاستيقاظ المفاجئ في الصباح الباكر، وربما هي رغبة في مفارقة حالة ما، كانت فيها وما زالت، إلاّ أن حركة الحياة التي بدأت للتوّ مع اصطفاق جناحي الحمامة على زجاج نافذة غرفة نومها في مغتربها بكندا، سيوقظ هذه الرغبة الكامنة في الخروج من زمان إلى زمان، وسيكون الزجاج هنا الحاجز الفاصل بين عالمين أحدهما ذاتي والآخر موضوعي مستقل عنها، وهذا الزجاج بمجرد أن ينفتح حتى تبدأ الحياة في التسلل إلى فضاء الغرفة دون استئذان، وها هي الرطوبة الآن تصل إلى حافة السرير. الأمر الذي يحفزها قليلاً لاستقبال العالم. وهكذا فإنها كأيّ طفل يواجه العالم المغاير لعالم الحاضنة، ستحاول الكشف عن غطاء هذا العالم، لترى ما يستبطنه من وقائع جديدة، ستناور في المكان حذرة مستكشفة دون أن تقدم على خطوة إضافية، اللهم باستثناء الشرفة الملاذ الآمن الذي سيمكّنها من حالة تماس أولى ولكن عن بعد.

ومن خلال الإنشاء الاستفهامي الذاهب في التقصّي والاستفسار عن أسرار هذا العالم سينفتح لنا العالم الخارجي، عبر مونولوج داخلي مكّنها بشكل رائع على الذهاب والإياب بين الأزمنة، لتستحضر ما شاءت من ذكريات تساعدها على تبيّن وفهم العالم.

فمن جهة الزمن الإنساني الآني؛ الذاهب باستقامة نحو نهاية معروفة، فإنه ليس فيه ثمة فرصة للانشغال بالذات كذات؛ بالفرح، أو حتى بالحزن. وربّما أنه زمن عبودية من طراز جديد، يتشيئ فيه الإنسان، ويصبح عبداً لنظام عمل قاس ولا إنساني. وهو ما يحجم الشاعرة على تجاوز العتبة بخطوة إضافية، ولكنه في الوقت نفسه زمن تعيشه وينبغي لها أن تقبله مرغمة، وها هي صرخة الطفل الصغير في الخارج تؤكّد لها أن الحياة في الخارج مستمرة، وينبغي أن تعاش. وعلى طريقة الرواة المحترفين، ستفتح إطاراً إضافياً للحكاية الأولى، لتخبر قارئها عن قصّة الصبي الأسمر الصومالي الذي يسكن في الردهة المجاورة في حكي إضافي ذي دلالة:

"جاري، الطفل الصغير، يزعق الآن أيضا، ربما لا يريد ان يذهب الى المدرسة، أتراه يخاف افتقاد الأمّ، أمْ يكره الذهاب الى العالم؟

أقصد الصبي الأسمر الصومالي الذي يسكن في الردهة المجاورة، حصل وخرجتُ ذات صباح وباكرا جدا، صرخت في وجهه وأمه: أرجوكم، لا أستطيع الاستيقاظ كل يوم على بكاء طفل حاد...



لا أعرف هل أصبحت الطفولة حادة، أم البكاء حادا، أم العالم"؟

وهذا الإخبار الاستطرادي عن "الصبي الأسمر"، إنما هو سعي من الشاعرة للمقارنة بينها وبينه فهو على غرارها يقف عند العتبة رافضاً الذهاب إلى الخارج حيث الحياة، إنه يؤثر البقاء في الحاضنة الأمومية الدافئة، ولا يريد فراقها، ومن هنا سيأتي صراخه احتجاجاً على هذه الحياة في الخارج، ومن هنا يأتي الإنشاء المعبّر: "أتراه يخاف افتقاد الأم. أم يكره الذهاب إلى العالم؟" كتأكيد من قبل الشاعرة على أن هذا العالم يبعث على القلق أكثر مما يبعث على الاطمئنان، ثمّ إنها ستعمل على تأكيد ذلك بأدلة إضافية، وبذات الطريقة في إثارة سؤال "من أيقظني" لتفتح احتمالاً جديداً، يمكّنها من وصف هذا العالم عبر رموزها الفائضة:

"من أيقظني هذا الصباح؟!

قد يكون ذاك الذي يحمل الجرائد الصباحية إلى بابي، باكرا جدا

لا أعرف أهو رجل ام امرأة. الشخص الذي يضع الجريدة أمام أقدام الباب،لا يحني ظهره،. الكلام الكبير في الجريدة يوقظ الباب بصخب طفيف يوقظني ويترك العالم في صفحات على بابي."

هذا العالم الفائض بمناظر وروائح الدم لا تريده، ستعود إلى الشرفة إذن، إلى قهوتها الصباحية؛ إلى فيروزها التي تغني من دمشق، لندرك أن ثمة مسافة تفصل بينها وبين حاضنتها؛ لندرك أنها ما انفكت منذ مغادرتها تنتظر عودة إلى تلك الطمأنينة وذلك الدفء، اللذين نلتمسهما عبر النداء الفائض بالحنين: "أمي"، ولحظة مناداة الأمومة بهذه الطريقة ستدفع النصّ نحن وجهة جديدة.



1.2 زمن الحاضنة الأولى

إنه صباح الياسمين إذن، وفيروز، والقمح، والصلاة، بكلّ ما تزخر به هذه المفردات من دلالات غنية تشي دواماً إلى زمن آخر عاشته الشاعرة في طفولتها وشبابها، وها هي الآن تسعى لاستعادة هذا الزمن الفائض بالمحبة والأمومة عبر أكثر الصور تشبثاً بالذاكرة: الأم في حياتها المنزلية الاعتيادية وهي ترعى أزهارها، والأب؛ الأبوة الحقّة التي ما انفكّت تتعامل مع الأرض كأم فائضة بالخير، عليهم، كالسّوريين القدماء، المواظبة على إحيائها، كي تظلّ كذلك:

"أمي، هل رششت ِ أزهارك الكثيرة بالماء؟ هل قطفت ِ بعضا من الجوري، أمي أمي أمي، أما زالت تلك الجورية البرتقالية في كتف باب الدار تستقبل ضيوفك وتودعهم؟! من يزوركم هذه الايام؟

هل عاد أبي من مشواره الباكر صوب أمه الأرض!

يتيم أنتَ يا أبي، ولم تدرك أن العالم يتيم أيضا، ولا أم ترعاه."

ويا لبؤس هذا العالم عندما يفتقد الأمومة العظيمة، ما الذي يتبقى منه؟ سنعرف ذلك بعد قليل من خلال الأطر المشهدية التي تفتحها مجدداً في الحاضنة الأولى من خلال أسئلتها المعتادة في فتح الإطار:

"هل عاد أبي بأرغفة الخبز الطازج، ترافقه بدوية سمراء، أيقظتها الخليقة باكرا لتقدم للعالم الحليب واللبن ...... العالم جائع منذ الأزل وصغيرة هي، تتعثر بفستانها الطويل جدا. تحمل لنا الحليب إلى البيت وكفها مازالت حليبا."



وسيعزز هذا الاستطراد الإضافي، لمشهد بائعة الحليب الصغيرة التي "كفّها ما زالت حليباً" جانباً من الحياة الاجتماعية لذلك الأمس في تفعيل دراميّ مثير، يتناسب طرداً وأسئلتها المتوهّجة في بنية النصّ عن حال هذه الطفلة الصغيرة الخاضعة لنظام أبوي، يسلبها طفولتها، ومستقبلها أيضاً، بتزويجها رغماً عن أنفها لابن عمها، ولن يكتمل المشهد إلاّ بالمفارقة الأخيرة التي أسس لها الاستفهام الإنكاري "أتراهم.. يبيعون حليبها وينامون جوعاً" الذي يختزل العالم كله في أن ثمة مَن في هذه الأرض ينتج، وينتج، ثمّ ينام جائعاً، وربّما هذا السياق بدوره سيفتح لنا إمكانية تبصّر المنحى الفكري الذي أسست له الشاعرة عبر مقارنة لحظة الأمومة بالأبوية التقليدية والمستحدثة، ولذلك فإن احتجاجها على "لاعدالة هذا العالم" سيأتي قوياً وصارخاً ومفعماً بالاستهجان والاستنكار الذي عبّر عنه الإنشاء بالأمر في قولها:

"الحليب ضروري جدا- يقول الأطباء-

اسكبوا الحليب على وجه العالم، على قامته، علّه يقف مرة واحدة أخيرة.

عظامنا مترهلة، أنقاضنا غائرة فينا، ليس لنقص الكلس، بل لان الصباح لم يعد ابن الشمس. "

وهذا الصباح هو صباح الشاعرة التي مازالت تحتسي قهوتها في الشرفة، وما زالت تفكّر هل تمضي خطوة إلى أمام، أم تواظب على المكوث في دفء الحاضنة، ولكن كيف يمكنها ذلك وهي تبتعد بهذا القدر عنها؟



1.3 إنها مرة.. مرة!

"أمي قهوتي مُرة الآن.. مُرة.. مرة، والحليب مسحوب منه الدسم.

الطفلة، كانت تضع فائضا من السكر، فقط كي تبرد كأس الشاي

كبُرت، وتشرب الحزن بلا سكر- وأحيانا البحر - ، قدحها سميك كما وجه هذا العالم ، لا ينقل الحرارة ولا الحب ولا اللوعة بأمانٍ."

ولنلحظ هنا هذا التكرار الثلاثي للفظة "مرة" كم أكّد إحساسها وموقفها تجاه هذا العالم المخادع والقاسي! عالم يمكن وصفه أنه يتضاد مع الحرية، ويتحالف مع قيم الثبات والسكون، وبذلك فإن الزمن، فيما ذهبنا إليه في مبتدأ حديثنا هنا، هو سرّ العملية الإبداعية التي راهنت الشاعرة عليه، لتبرز الفارق بين عالمي الأنوثة والذكورة، تلك الذكورة القادمة من عهود سحيقة، ولكنها ما انفكت تتجدد في أشكال وأشكال. إنه زمن سرمدي وغامض، قد يفضي بنا إلى آلاف السنوات، ولكنه مازال حاضراً أبداً في مخيلة الشاعرة الرافضة لتفاصيله الذاهبة في القسوة:

"العالم مصاب بنقص في كل شيء؟ اللهم إلا تطور الأسلحة النووية ومشاريع باذخة لحروب صغيرة كبيرة أخرى."

والاحتجاج على هذا العالم المتداعي، يعبّر بالضرورة عن وعي الشاعرة تجاه القضية الإنسانية، ومدى خطورة اللعبة السياسية التي تهندسها الأبوية المستحدثة لعالمنا، فتنادي الحاضنة الأولى وملاعب الطفولة هناك في الجزيرة السورية حيث نشأت، بلغة لا تخلو من السخرية المرة:

"لا تبتئسي أمي ولن ينتهي العالم! فقط بعض الصواريخ ستزوركم...وأطنان القذائف ستسقط بالقرب منكم هناك ... وسيصفق العالم البليد هنا وفي أمكنة أخرى، معتقدا أنها حرب ضد الشيطان الآخر."

وهكذا، فإن السرد سيتجه لتصعيد جديد، وإلى مقارنات سريعة بين هنا وهناك حيث تجلس الشاعرة في الشرفة ذاتها، وتشرب قهوتها التي ستوقظ خيالها، فترينا عبر لقطات سريعة ما سيكون عليه الحال هناك في الحاضنة والمهد، في صورة أبيها كرمز طيب لابن هذه المنطقة التي قدّمت للبشرية نصّها الأوّل الذي انبنت عليه جملة معارفها وآدابها، في صورة الشخص المنذهل أمام ما يحدث، ولا يعرف سبباً لهذه الهمجية التي تريد اقتلاعه من جذوره:

"أذكر، نهرني مرات كثيرة وأنا صغيرة إذ تأففتُ في وجهه: ما هذا يا بابا، نريد فيروز صباحا، إلى متى أخبار أخبار أخبار ... وصفقتُ الباب على نفسي.

شتمني "يلعن أبوكم " العالم يشتعل وأنت تريدين فيروز

سامحني يا أبي، العالم يواظب اشتعاله اليوم، يكمل دورة خرائبه وأريد فيروز، رحمة بي."

وليس ثمة أبلغ من هذا الموقف الذي جاء مقصوداً ومرسوماً بدقة شديدة، حيث إن الحمامة التي أيقظت الشاعرة قبل قليل، وهي رمز للسلام والمحبة على صعيد العالم، فإن فيروز بدورها رمز إضافي للسلام الداخلي، وهي كذلك لأبناء الشام عموماً، وربما استحضارها هنا وكذلك الشام، إنما رغبة من الشاعرة على مواجهة الزمن الجديد، الذي ما انفكّ يعلن خرائبه وخيباته، وستذهب الكتابة في تقصّي هذه الحالة ابتداء من الميثولوجيا المؤسِّسة لثقافة القوة، ووصولاً إلى اللحظة المعاشة، من تفاقم هذه الثقافة وتهديدها لأمن العالم.



1.4 ـ الرمز والدلالة

1.4.1 ـ ذاكرة الحبر.. الكتابة

أعتقد أن خلاصة التجربة الشعرية في هذا النصّ الرائع لجاكلين، تتكاثف حول ثنائية: حبر/ كتابة، والحبر هنا رمز لذكورة فضّاحة، ذكورة يمكن وصفها بأنها تسعى لتلطيخ وجه العالم بهذا السائل الداكن، الذي تبقى آثاره طويلاً ، بل ربّما لا تزول، لكنها في الوقت ذاته ستضع المحبرة أمام جبروته، ستخزنه فيها، ومن هنا تأخذ رمزية المحبرة أبعاداً دلالية تعود إلى الميثولوجيا؛ إلى خزان البشرية الرمزي، وإلى حواء أمنا الحاوية، كي تقنن من فعل الذكورة الفائض بثقافة القوّة من خلال المحبرة أي الأنوثة، وإذا كانت الكتابة بالحبر مطلوبة، فلتكن إذاً في الأمكنة المطلوبة، وفي ما يخدم البشرية، سيما وأن الشاعرة زهرة نبتت في مهاد المعرفة الأولى، وهي إلى ذلك تحمل إرث الخيرـ الخيرات الذي تمّ تقديمه للعالم، ألم يقل هيرودوت في تاريخه: "وقد أدخل الفينيقيون الذي جاؤوا برفقة "قدموس" إلى بلاد الإغريق عدداً من الفنون، أهمها الكتابة، وهي فنّ لم يكن على ما أظن معروفاً لدى الإغريق حتى ذلك الحين."

هذه الكتابة التي ابتدعتها شعوب المنطقة، هي لغة الرمز الأولى، التي كان كلّ العالم يفهم لغتها تماماً، إنها لغة أشبه بلغة الأم (أم الشاعرة) التي توزّعَ أبناؤها في أماكن مختلفة من العالم، وهي لا تعرف القراءة والكتابة، فراحت تخترع لغتها الخاصة: اللغة الأمومية العظيمة التي يمكن لأي كائن في هذا العالم أن يقرأها:

"أتخيل دفتر الهواتف في بيتنا العتيق وأرى رموزكِ الهيروغليفية وأنت تضعين مقصا أمام رقم هاتف جارتنا الخياطة. ترسمين سكينا أمام هاتف القصاب ووردة أمام رقم آخر وحذاء على آخر... تخترعين لغتكِ ورموزكِ

ترسمين طائرات ... طائرات ... طائرات، وتتشابكُ على أرقام هواتف أبناؤك المبعثرين في القارات. وما أجملكِ أمي، ماأجلّك. وما أشقاه قلب العالم. "



1.4.2 ـ الحمامة

كما يتوضّح من خلال الاستهلال أن للحمامة حضوراً دلالياً خاصّاً في النصّ، وربّما أن هذه الخصوصية نابعة من كون هذا الطائر الجميل ما انفكّ منذ أزمان غابرة على تماس مباشر مع البشر، له ألفة خاصة وتعامل مختلف عن سائر الطيور، كما أن حضورها كطائر متميّز في التراث العربي والعالمي متجذّر بأبعاده الرمزية منذ أزمان الكتابات الأولى، وهي وإن باتت اليوم رمزاً عالمياً للسلام والحبّ، إلاّ أن حضورها الدلالي في النصّ يذهب باتجاهات أخرى يمكننا تلخيصها في أنها تعبير عن روح الشاعرة التوّاقة إلى الانتقال من زمن لزمن آخر من خلال الطيران، وإن اصطفاق الأجنحة على النافذة هو المؤشر الدلالي على هذه الرغبة الكامنة للعودة إلى زمن الحاضنة الأم، الأمر الذي غلّف فضاء النصّ بجو من الحزن الشفاف المرتبط أساساً بعاطفة مشبعة بالحنين إلى فضاءات إشراقية فيها لها خصوصيتها الساحرة.

ومما يجدر التنويه إليه في هذا الخصوص أيضاً، هو حضور النافذة والشرفة المطلتان على عالم غير مرغوب، ولكنهما في الوقت نفسه علامتان مؤشرتان على إمكانية التحرر من أسر المكان وحصار الجدران، أو الظلمة، أو أيّ شيء آخر جعل من الشاعرة توّاقة للخلاص منه، فمن النافذة والشرفة يأتي النور، الذي سيواجه الظلمة، ورمزية النور والظلمة بالرغم من ارتكازها على خلفية دينية أو أسطورية، إلاّ أنها لها تشعباتها في جسد النصّ، وأول هذه التشعبات: عبور برزخ الظلمة نحو نور الصباح القادم عبر النافذة، وهذا النور بدوره سيكشف لنا واقعاً فائضاً بقسوته وغرابته، ولذلك فإنها ستعمد إلى مساواته بالظلمة: "سأصمد الآن، سأعيد الكلمات الصارخة إلى أدراج معتمة، وأقفل مسالك الضوء إليها.. الكلمات تنجب في العتمة أيضاً." وسيعزز هذا الموقف متناصها: "دور ياكلام على كيفك دور..." لتتساءل بعد ذلك إن كانت نور ستولد حقاً.



1.4.3 ـ الأمومة، الحليب والخبز.

ما انفكت الأم في الذاكرة الجمعية، تقدّم على أنها رمز للخصب والنماء، ورمز لديمومة الحياة، نظراً لطبيعة تكوينها من جهة، ونظراً لما هو قار في الذاكرة البشرية التي قدّست وبجّلت أمهات عديدات كعشتار وإيزيس، وإذا كان حضور الأم بهذا المستوى، يعكس جوانب اجتماعية ودينية وتاريخية، فإنما هو بالإضافة إلى ذلك يتحوّل إلى مساحة دلالية فيّاضة، سيما وأن كثيراً من العناصر النباتية والحياتية اشتركت في تلوين هذه المساحة بزخم إشاري جدير بأن ينوّه إليه: الخبز، الحليب، الزهور بأنواعها، الخضرة والماء. ومن كلّ ذلك يكفي أن ننوّه هنا إلى أن الحليب كمنتجة غذائية، هو شراب أمومي بامتياز، وهو إلى جانب الخبز والزهور سيكون مقابلاً ندّياً لطموحات الأبوية المستحدثة في تخريب الأرض عبر الصواريخ والقنابل.



2 ـ في تقنيات بناء النص.

تتأسس البنية العامة للنصّ على شكل مونولوج سرديّ طويل، تموضعت فيه حكاية إطارية عامة: استيقاظ الشاعرة في الصباح الباكر، وانتقالها إلى الشرفة لتحتسي قهوتها وترقب الحياة في الخارج، وخلال ذلك، وعبر السرد، ستفتح لقارئها عدة أطر مشهدية مكثفة وسريعة: إطاراً أولياً مع الحمامة التي أيقظتها، إطاراً ثانياً مع الطفل الصومالي وأمه، وثالثاً لبائع الجرائد وهو ينقل أخبار العالم إلى بيتها، ورابعاً سيسافر بنا إلى ماض قريب حيث أمّها وأبيها والطفولة، وخامساً عن بائعة الحليب..

وهكذا فإن هذه الأطر جميعاً سوف تنفتح وتنغلق اعتماداً على الذاكرة التي بدأت تستيقظ للتوّ مع رشفات القهوة في الشرفة، وعلى تقنية السؤال والجواب التي عبّر كلّ مما يأتي:



2.1 ـ الإنشاء والإخبار

يعجّ النصّ بالاستفهام المتعدد الأغراض، بل إننا نستطيع القول أن بنية النصّ العامة ارتكزت على الإخبار من خلال الإنشاء الاستفهامي المفضي دائماً إلى حكاية جديدة، أو كتكملة لحكاية تمّ فتح إطارها قبل قليل، وهكذا فإننا سنلتمس قبيل كلّ حكاية تساؤلاً محدد الغرض، وكلّها عبارة عن محرضات تدفع باتجاه مزيد من الحكي على طريقة السرد القصصي الحديث الذي تتفرع عنه حكايات وحكايات، ولكنها ما تلبث أن تنضمّ جميعاً إلى سياق واحد نحو النهاية المبتغاة، والأمثلة في هذا الضرب الأسلوبي كثيرة: "من أيقظني هذا الصباح؟ اللازمة التي تكررت كثيرة، لتنويع الإخبار فيما بعد.

هل حقاً سيولد نور؟

أمي هل رششت أزهارك الكثيرة بالماء؟

هل عاد أبي ..؟



2.2 ـ الحوار

ولما كان الحوار أحد عناصر السرد الرئيسة فإن المونولوج في هذا النصّ سيكون هو العنصر السردي الحاسم، بل إنه كما أسلفنا بمثابة مونولوج طويل، تخاطب الشاعرة فيه نفسها، أمّها، أبيها، القارئ، على مدار النصّ، وإلى جانب ذلك، فإننا سنلحظ أنها اعتمدت تقنية الحوار بين الشخصيات المستحضرة، ولكن هذه الحوارات لا تذهب بعيداً لتفعيل الحدث كما الحكاية، وإنما لتصدير مفارقة، أو لتعزيز المشهد بأصوات إضافية ذات نكهة خاصّة، تكسبه طرافة من جهة، وتؤكّد قدرة الشاعرة على التقاط التفاصيل اللماحة، ومن هذا الحوار المبثوث سنجتزئ شتيمة الأم الصومالية لابنها: "يلعن أبوك ع الصبح شو عم تتطلّع"؟ أو شتيمة أبيها: "يلعن أبوكم، العالم يشتعل وأنت تريدين فيروز؟" في مشهدين مختلفين.



2.3 التناص

يذهب منظرو السرديات إلى أن جزءاً أساسياً من نصّية النصّ، يتجلى من خلال "التناص" كممارسة تبرز لنا عبرها قدرة الكاتب على التفاعل مع نصوص غيره من الكتاب، وعلى إنتاجه لنصّ جديد ، ويعني ذلك أن هذه القدرة على التفاعل مع نصوص أخرى تعني إنجاز نصّ جديد، يستقي أشياء كثيرة من التجربة الشخصية، وتنضاف إليها التناصات المقتبسة عمداً، أو عفواً، وإلى ذلك فإن نصّ "المحبرة أنثى والكلام ناقص" يحفل بالمناصات سواء عبر المحاكاة، أو في اقتباس بنىً نصّية شعرية أثبتتها الشاعرة في متن حكايتها: ومن هذه المتناصات، تضمينها لمقطع من شعر كافافي: "فقط التقويم السنوي ماتت بين أوراقه صفحة البارحة، البارحة شمعة حزينة." أو اجتزائها لمقاطع من العامية المصرية لأحمد فؤاد نجم على الأغلب: "دور يا كلام على كيفك دور/ خلّي بلدنا تعوم في النور/ ارم الكلمة في بطن الظلمة / تحبل سلمى / وتولد نور.." وفي مجتزئ آخر "ممنوع من الكلام / ممنوع من السكات..."

وبالإضافة إلى المتناصات الشعرية، ثمة تناصات ميثولوجية أو أسطورية، كما في أسطورة "الشيطان" وطرد آدم وحواء من الجنة، وإعادة إنتاج أسطورة الخلق البابلية، واعتمادها لمصطلح أمنا الأرض، وبدوره فإن سيزيف كمثال ملهم للمعاناة سيحضر، إلى جانب "أسطورة القمر والتنين، أو القمر والحوت"، وأما من عالم الحكاية الشعبية فإن حضور شهرزاد سيكون بمثابة خاتمة إشارية لطيفة ذات.

ختاماً.. فإن هذه التناصات والمتناصات اشتبكت مع المتن العام للنصّ، وامتزجت به كلياً لتشكّل نصّاً جديداً، وقّعت عليه جاكلين سلام بمهارة، وإلى ذلك، فإننا نرى أنها تمكّنت وبمهارة كبيرة من الاشتغال على تاريخ المنطقة وأساطيرها وحكاياتها وعاداتها وتقاليدها، ووظفت كلّ ذلك، في سبيل إخراج نصّ جديد حافل بفيض من الإيحاءات ليعبر في النهاية عن ثقافتها، عن موقفها تجاه الذات والعالم.



المحبرة أنثى والكلام ناقص: نص من مجموعة المحبرة أنثى للشاعرة جاكلين سلام.



*عزت عمر: كاتب وناقد سوري مقيم في الإمارات
www.izzaatomar.com
القمال منشور في موقع جذور وهنا الرابط

http://www.jozoor.net/main/modules.php?name=News&file=article&sid=1574


تعليقات

جاكلين سلام

حضانة الاطفال والحقائق المرة عن محكمة الاسرة في كندا

شعرية الكريستال قراءة نقدية في مجموعة كريستال للشاعرة جاكلين سلام. د. محمد فكري الجزار

about " Anne of green Gables"

قسوة الهجرة الى كندا في مذكرات سوزانا مودي، جاكلين سلام

مراجعة كتاب وقراءة في "نادي الانتحار" والليالي العربية الجديدة

مشاركة جاكلين سلام في مؤتمر اعدت له الجامعة الكندية ( ماكماستر) حول اللغة والمنفى

انشغالات جاكلين سلام في الدستور الاردنية

حوار مع الناقد محمد عباس في صفحة منتدى مدينة على هدب طفل 2004

نصوص من مجموعة المحبرة أنثى