المحبرة أنثى والكلام ناقص
«المحبرة أنثى» لجاكلين سلام
سيناريو مفترض لقصيدة متسلسلة
هيثم حسين
يتبدّى انتصار الشاعرة والمترجمة السوريّة جاكلين سلام في مجموعتها «المحبرة أنثى»؛ الصادرة مؤخّراً عن «دار النهضة العربيّة»، للأنوثة، ليس من خلال العنوان الذي قد يشي بذلك فقط، بل عبر النصوص التي تؤكّدها، ولا يأتي هذا الانتصار تعصّباً، إنّما تأكيداً على الدور الرئيس للأنثى في حياة الجميع.. يتأنّث الجمال، فالمحبرة التي تكون أنثى تلتقي مع الأنثى معنى ومبنى، معنى: لكونها تشكّل مصدراً للعطاء كالأنثى نفسها، ومبنى: من جهة التماثل معها. العنوان هو الشقّ الأوّل من جملة مؤلّفة من شقّين: «المحبرة أنثى والكلام ناقص»، قد يشير بذلك إلى اكتمال الأنوثة، ونقص الكلام - الذكورة المتناسب معه عكساً، كأنّ الكلام محكوم بعدم الارتواء من المحبرة، وبالعودة الدائمة إلى النبع ليستقي منه الديمومة والاستمراريّة، في مسعى منه للبحث عن الكمال المنشود.. بالمقابل تبقى المحبرة محكومة بالعطاء من دون حدود، بالتجدّد، ولا تعرف إلى الجفاف طريقاً، باعتبارها تحاربه بالكرم من مختلف الجهات.. في المجموعة التي تحوي سبع محابر/ قصائد، «محبرة الرغبة، محبرة الأربعين، محبرة السنجاب، محبرة الجيم، محبرة أيّوب، محبرة البلاد، محبرة الضوء»، وكلّ محبرة تحوي قصائد، تحاول الشاعرة عبرها سكب كلماتها، فتتشظّى المعاني، وتتفرّع التأويلات وتتعدّد. تسرد الشاعرة بعض الأحداث والمجريات التي مرّت بها، تنثر بعضاً من المواقف التي تعرّضت لها، لا تحافظ القصيدة معها على طابعها المجرّد، بل تتحدّد بزمان ومكان معيّنين، كما تنضاف إليها شخصيّات بعينها، فتلامس بذلك القصّة وتتقاطع معها، باحتوائها على الزمان والمكان والشخصيّات، وحتّى في طريقة الكتابة، ذلك أنّ اللغة السرديّة تطغى في عدد من القصائد على اللغة الشاعريّة، تسرد القصيدة، متجاوزة قيود الشكل، باحثة عن القصيدة المنعتقة من القيود والقوالب. تقتبس الشاعرة في بعض القصائد من شعراء آخرين، معاصرين وسابقين، من ذلك اقتباسها من قصيدة الشاعر محمود درويش عن أمّه، ثمّ محاولتها محاكاته في سرد التفاصيل التي تشكّل مصدر الحنين الأقوى، نقرؤها تبرّر لأمّها التي تعاتبها على جنونها في الكتابة على ثيابها، «أعتذر الآن لطيفك وهو ينظّف العالم في عيني. أمّي ثيابي نظيفة، متّسخة أوراقي والحبر كثيف، الحبر معصيتي. الحبر قيامتي. الحبر أمّي. الحبر دمعتي. الحبر حبّي. المحبرة أنثى والكلام ناقص». ص27. وفي مقطع آخر تستشهد بالشاعر سميح القاسم وتقتبس منه وصفه أمّه وهي ترتق الجرابات. ثمّ تقتبس من الشاعر سليمان العيسى عند استذكارها طفولتها بعض الأناشيد المدرسيّة. ومن الكاتبة الأميركيّة هيلين كيللر، التي وصفت بأنّها معجزة القرن، بعض الرؤى الحياتيّة. كما أنّ الشاعرة تقتبس من بعض أغاني فيروز في أكثر من مقطع، وتسخّرها في إيصال رسائلها الشعريّة المفعمة بالحكايات.. رثاء الشعر ترثي الشاعرة لحال الشعر، يتجلّى رثاؤها، تنكشف مناجَيَاتها واعترافاتها في قصيدتها «مقعد للشعر، مساحة للحياة» تؤنسنه، تحادثه، تستحثّه على القدوم إليها، تغريه بالتقدّم، تهبه كلّها، «لك كلّي. لك هذا الجسد بأبجديّته العصيّة، هذه الروح، ضلالها، طلاسمها، أرقها الذي ينبثق من غياهب صمتي وتساؤلاتي...». تعلن له الولاء والعشق، تستمهله، تطلب منه أن يمنحها بعض أسراره، يلبّي الشعر؛ هذا الكائن الذي بات غريباً في العالم، طلبها، يبادلها المشاعر، يخبرها عن أحواله وغربته متألّماً: «أنا لا أقيم، العالم غربتي». يخبرها بأنّها ستجده في كلّ مكان، وكلّ شيء، حيث لا تنتظر. ثمّ تعلم الشاعرة عن رؤيتها للشعر، الذي رأته في مختلف الحالات، رأته مرتبك القسَمات، مستلقياً معها يحدّثها عن كثير من الأمور الحياتيّة، يحمل إليها رسائل من حبيبها، وجهه رسالة بحدّ ذاته، ثمّ تراه في مشهد آخر يماطل ويعتمر طاقية الإخفاء، ساخراً منها وهي تحاول القصيدة، تكرّر بنوع من تمثيل المفاجأة: «رأيته رأيته/ رأيت الشعر جالساً على بساط الريح، يهرّب الأوطان إلى عشّاقها، ساخراً من حرس الغابات...». ص35. ثمّ تكرّر رؤيتها التي تختلف، فبينما يقوم الشعر بدور بطوليّ في تجميل العالم، يقترف الكثيرون باسمه الموبقات، وعلى الرغم من ذلك، يكون متسامحاً، رؤوفاً، تصف رؤيتها له: «رأيته رأيته/ رأيت الشعر يدور في العتمة في شوارع العالم وحيداً يتمتم: متى كرنفال الحياة!». رأيته يكتب على جدران المدينة: كم ارتكبتم قبحاً وجمالاً باسمي، وكم تكذبون. شاسعة مملكتي، وغريب غريب أنا». ص37. كما أنّ الشعر يرميها في أقصى العتمات وخلف موائد اللذّة والألم والنور، ثمّ يمضي. الشعر يلغي الأزمنة، يلغي التراتبيّات، يتجاوز التحقيب، «في الطريق إلى القصيدة يختلط الحاضر بالماضي والمستقبل». يمنحها الشعر بعضاً من أسراره، فتعرّف الومضة بأنّها «لحظة انعتاق الجسد ليصير كلمات يعمّدها الحبر»، وأنّها امتداد وانسياب لا ينفصل عن اللحظة التي يقرؤها فيها وجه مجهول ويعيد تشكيل الحالة بينها وبين الكلمات، فيختار أن يسامرها في ظلال الكلمات أو يغادر على عجلة. مَسْرَحة القصيدة تقول الشاعرة إنّ القصيدة الواحدة تتّسع لغابة، وبذلك تفتح آفاقاً لقصائدها، تلغي الخطوط الفاصلة بين الأجناس، تكون القصيدة حكاية، أو قصّة قصيرة جدّاً، ثمّ نجدها تُمسْرح بعض قصائدها، كأنّها تقدّم بذلك سيناريو مفترضاً لقصيدة تتسلسل، تكون المسرحة تقنية حاضرة في معظم القصائد، تنوّع في طريقة تقديمها، تارة بحذف المتكلّمين وإحالة الكلام إلى غائبين، ومرّة بذكر المتكلّم، كضمير أو كقصيدة، أو تتقمّص هي الأدوار لتؤدّيها نيابة عن كائناتها الشعريّة، من بعض الأمثلة على مَسْرحتها لمقاطع من قصائدها، ما يرد في قصيدة «شرفة الفراغ»: «- هل يندمل الوقت؟ - لا أحد يندمل، القلب محبرة، وتسيل. – هل المحبرة واقع؟ - واقع ما تروّضه الأوهام والأخيلة.». ص44. وكذلك قصيدة «لا وطن لي، عندي أمّ» المُمسرحة كاملة، وهي حلقة متسلسلة في «محبرة أيّوب»، يدور الحوار فيها بين شخصين، تشير إليهما الشاعرة بـ«هو» و«هي»، حيث تبني القصيدة بصيغة حواريّة: «هو:أعطني العنوان بالتفصيل، قد أزورك قريباً. هي: مدينة ضبابيّة وعلى الشرفة حمامتان، إحداهما رماديّة والأخرى رماديّة أيضاً، لا تجفلهما عندما تعود، حاول أن تصل نهاراً.». ص113. ثمّ تضيف مؤثّرات مسرحيّة في قصيدتها «محبرة البلاد» التي تدير فيها حواراً بين «المارد» و«ج»؛ الحرف الأوّل من اسمها، وتعنون المقطع بـ«الشاعرة في قلب الشارع»، فيتواجد إضافة إلى صوت المارد أصوات مصاحبة، كأنّها تتكلّم من خلف الستارة، حيث «ينشب» حوار بينها، يختصر عِراكاً مزمناً، يومئ إلى الجلَد، كصفة ليس بالضرورة أن تكون إيجابيّة دوماً، لكنّها قد تغدو القدرة السلبيّة على التحمّل، فتكون صنو الخنوع والجبن وانعدام الحيلة، تعبّر عنها الشاعرة بسخرية لاذعة مريرة في المقطع التالي: «صوت: اللعنة اللعنة، لقد تركنا الحصان وحيداً. ج: وما علاقتي بالموضوع يا أخ العرب؟ مَن قال لك إنّ من شأني تربية الخيول. للخيول حماتها والديار، وكلّ ما يشغلني هو هذا الشبه بيني أيّوب والحمار». تحبّر الشاعرة جاكلين سلام صفحات «المحبرة أنثى».. تطرح عدداً من المواضيع في قصائدها، عن العنف، عن الحرّيّة، عن جوانب مختلفة في الحياة، عن البنوّة والأمومة، عن هموم الإنسان المغترب، عن الاغتراب المرتحل مع الأرواح، عمّا تفعله السنون في الإنسان، عن الأحلام والأوهام... وعن الشعر والحبّ والجمال.
[ منشورات دار النهضة العربيّة، بيروت، 2009، 146 صفحة.
السفير 29-مارس 2010
تعليقات